الصراع من أجل السيطرة وبسط النفوذ سنة بشرية لا يكاد يخلو منها التاريخ الإنساني، حيث التنافس بين الأمم ومحاولات الهيمنة والتفوق تحرك التاريخ، بل وتصنع المستقبل في العديد من الحالات، ومن الأمثلة الدالة على دور الصراع والتنافس في رسم ملامح الأمم ما يوضحه المؤرخ البريطاني بريندان سيمز، في كتابه «أوروبا... الصراع من أجل الهيمنة من 1453 إلى الآن»، ويسعى من خلاله إلى إعادة تتبع تاريخ القارة الأوروبية من الصراعات والحروب المتواصلة التي رسمت حاضرها اليوم بعدما تركت ندوباً غائرة في وعيها ما زالت آثارها مستمرة حتى اللحظة. وليست المساعي الأوروبية للتكتل ضمن اتحاد اقتصادي وتجاري سوى محاولات لمنع صعود قوة بعينها تهيمن على الآخرين، وتعيد كتابة تاريخ الحروب والصراعات الدامية. فبعيداً عن التاريخ الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الفكري للقارة، يرى الكاتب أن المحدد الأساسي لتطورها والثابت الوحيد في رسم معالمها هو الصراع بين قواها المختلفة على الهيمنة، بين من يحاول التكتل والنهوض ثم السيطرة، سواء أكان ألمانيا في فترة معينة، أو فرنسا في فترة أخرى، وبين القوى الأخرى المتوجسة والساعية لصدها، مع ما ينتج عن ذلك من حروب تعددت أسماؤها فيما هدفها الوحيد هو السيطرة على القارة. ومع أن أوروبا لا تتجاوز مساحتها 7 في المئة من إجمال الكرة الأرضية، فقد استطاعت منذ عام 1800 السيطرة على 35 في المئة من إجمالي الأرض، وتوسعت هيمنتها في 1914 لتشمل 84 في المئة من الكرة الأرضية، لكن ذلك لا يهم الكاتب في شيء، حيث يركز اهتمامه على الصراع الدائر داخل القارة الأوروبية نفسها، وهو منشغل بمحاولات الدول الأوروبية نفسها الهيمنة على القارة، هذه الأخيرة التي يحب الكاتب تنبيهنا إلى أنها على مدار تاريخها الطويل كانت ساحة للحروب المستمرة، من حرب «الوردتين» في إنجلترا بين الأسر المتنافسة على الحكم وحتى الحرب على الإرهاب. وعلى امتداد صفحات الكتاب يتوالى صعود الإمبراطوريات الأوروبية وسقوطها، كما يسلط الضوء على حصار العثمانيين لفينيا مرتين، وانقسام الدول وتغير الحدود، والمعاهدات الكثيرة التي عقدت، ثم حرب الثلاثين سنة بما تضمنته من صراع ديني وسياسي كان محركه الأول السيطرة على أوروبا، دون أن ننسى حرب المائة سنة بين فرنسا وبريطانيا. وفي جميع تلك الحروب كانت القضية الأساسية التي تخيف الأوروبيين هي محاولات توحيد الدول تحت قبضة قوة واحدة تسيطر على الجميع، الأمر الذي يفسر الحروب المستمرة والصراعات المتواصلة. وهنا يشير الكاتب إلى التوجس التاريخي والمتأصل في الذهنية الأوروبية من صعود «ملكية كونية» تزحف من داخل أوروبا على سواها، ففي القرن السادس تنامت المخاوف عقب تشكل الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة الملك تشارلز الخامس والتي ضمت مساحة واسعة شملت الأراضي الناطقة بالألمانية والأراضي المنخفضة، بالإضافة إلى إسبانيا ومستعمراتها في أميركا اللاتينية. لكن محاولات الهيمنة امتدت أيضاً إلى المساعي الفرنسية بقيادة الملك لويس الرابع عشر، ولاحقاً بزعامة نابليون الذي سعى إلى غزو أوروبا، وليس انتهاءً بالمحاولة الناجحة لبيسمارك الذي وحّد الإقطاعيات الناطقة بالألمانية في عام 1860 في دولة قومية كانت إيذاناً بتعاظم المخاوف الأوروبية. فألمانيا الموحدة أثبت التاريخ أن طموحها يصعب لجمه، ليتحول التاريخ الأوروبي منذ لحظة توحد ألمانيا إلى صراع لمنع صعود العملاق النائم أو خلق مناطق عازلة على حوافها تحول دون تمددها، وأصبحت ألمانيا المسألة الأساسية في أوروبا يتصارع على وقفها الفرنسيون غرباً في حربهم مع أسرة «هابسبورج» الحاكمة، وروسيا القيصرية شرقاً. ويبدو أن المخاوف الأوروبية تأكدت مع توالي السنوات، عندما انخرطت ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم انقسامها خلال الحرب الباردة. والحقيقة، يقول الكاتب، إن وضع ألمانيا المنقسمة أراح الأوروبيين كثيراً، رغم الخلاف الأيديولوجي، ومهد الطريق لإعادة دمج ألمانيا في المنظومة الأوروبية، وحتى بعد سقوط جدار برلين وتوحد الألمانيتين مجدداً، سارع الفرنسيون للتخفيف من القوة الألمانية عبر ضمها إلى اتحاد أوروبي فيدرالي وهضمها داخل هياكله. كما أن تخلي ألمانيا عن عملتها الوطنية، وتأسيسها لعملة أوروبية مشتركة مع فرنسا كان بمثابة الثمن الذي دفعته لتوحيدها وكسر شوكتها. زهير الكساب -------- الكتاب: أوروبا.... الصراع من أجل الهيمنة من 1453 إلى الآن المؤلف: بريندان سيمز الناشر: بيسكس تاريخ النشر: 2013