لقد أصبحت المشكلة الطائفية هي العقدة التي تهدد مستقبل سوريا والمنطقة، بعد أن دخل "حزب الله" حرباً مفتوحة ضد الشعب السوري بدوافع طائفية محضة، وبدا خطابه التبريري مثيراً للسخرية بادعائه أن شعب سوريا خائن للقضية الفلسطينية، وأنه يقف ضد المقاومة والممانعة، وأنه شعب إرهابي، حتى إن عقلاء الشيعة أنفسهم رفضوا هذا الخطاب الذي أرجو ألا يتسع ويلقي ظلالاً سوداء على مستقبل العلاقة بين السنة والشيعة في العالم الإسلامي. لقد حاولنا نحن أهل السنة على مر العصور أن نطوي تلك الصفحات التاريخية المفجعة التي مزقت الأمة بدوافع سياسية ولاسيما بعد حرب صفين، ويبدو عجيباً أن تستمر هذه المعركة ثأراً في العقول المريضة إلى اليوم، وكنا نفهم أن الشعوبية هي التي استغلت تلك المنازعات لإضعاف العرب وإنهاكهم، ولم يكن المتطرفون من الفرس يخفون كراهيتهم للعرب، وشعورهم بالاستعلاء عليهم، وقد عبر الأدب عن هذه المشاعر في تجليات كان بعضها يمر عبر الدعابة كما فعل أبو نواس وبشار بن برد، أو في اصطفاء النبي محمد عليه الصلاة والسلام، للانقضاض على العرب والعودة إلى تمجيد كسرى. ولم يعترض العرب المعاصرون حين غنى الموسيقار محمد عبدالوهاب قصيدة مهيار "وأبي كسرى علا إيوانه.. أين في الناس أب مثل أبي؟ قد جمعت المجد من أطرافه.. سؤدد الفرس، ودين العرب"، فقد كانت الأمّتان العربية والفارسية تتجاوزان في مشروعهما الحضاري الواحد تلك الخلافات والعقائد الثانوية، وقد ضختا في الحضارة الإنسانية من الفكر والعلم والثقافة والإبداع ما جعل الشعوبية ذكريات سيئة وميتة في التاريخ، وحين ظهر "حزب الله" في لبنان مقاوماً وقف الشعب السوري (وهو سني في غالبيته) مهللاً وداعماً، ولم يكن أهل السنة السوريون يهتمون لكونه حزباً شيعياً، فهم وأهل الشيعة على وفاق واندماج اجتماعي عميقين. وقد وصل التفاهم إلى اعتراف سني بالمذهب الجعفري ونسبت إلى شيخ الأزهر محمود شلتوت فتوى تاريخية تعترف بالإمامية الإثنا عشرية. ولم يكن الدين على حال موضوع خلاف أو اختلاف، فالسوريون تاريخياً يفخرون بكونهم فسيفساء وموزاييك حضارياً، وقد ملأت صور حسن نصر الله جدران بيوت أهل السنة، وبعض العامة وضعوا صوره على زجاج سياراتهم، وكانوا يلتفون حول شاشات التلفزيون حين يلقي خطاباً وهم يصغون إليه. وفي أيام حرب 2006 كان السوريون مستعدين لدخول الحرب، وقد ظهرت على الفضائية السورية ثلاث مرات بوصفي وزيراً يومذاك، وأذكر أنني في جلسة مودة قلت لأحد قادة "حزب الله" بدعابة -ولعلي ذكرت هذا الحديث سابقاً- أرجوك أن تنقل لسماحة السيد أنني أتابع خطابه بشغف حتى إذا وصل إلى آخر كلمة فيه شعرت بقلق بوصفي من أهل السنة، حين ينادي بالثأر للحسين رضي الله عنه، قل له "إن كان يعرف من قتل الحسين ومتأكداً من أن القاتل موجود في سوريا فبوسعه أن يعطي اسمه لأجهزة الأمن، كي تسلمه إياه ونطوي هذه الصفحة". ولقد حاولت أن أفهم أن إصرار "حزب الله" على المناداة للثأر التاريخي من أهل السنة -والمقصودون أهل الشام حصراً- هو نوع من التعبئة بشعور المظلومية للجهلاء من أهل الشيعة، ولم أكن أريد أن أصدق أن رجلاً بحجم حسن نصر الله لا يزال يحمل الحقد القديم ويعيش أوهام التاريخ، وهو يجدها اليوم في القصير. ولأن العرب قالوا "وبضدها تتميز الأشياء" فقد نجحت حملة التعبئة الطائفية في إيجاد ردّات فعل من وزن الفعل وطبيعته، والخطر كل الخطر أن ينزلق الصراع أكثر إلى حرب طائفية بعيدة المدى، تحرم السوريين واللبنانيين من الأمن والاستقرار عقوداً قادمة. إنني أدعو العقلاء المعتدلين في الضفتين (الشيعة والسنة) إلى أن يتداركوا خطر انفلات المستقبل من أيديهم جميعاً، وأتمنى على حسن نصر الله أن يتأمل بعقلانية ودون طيش وتهور خطر ما ينجر إليه بأوامر إيرانية فيورط سوريا ولبنان بغرق أخطر في بحار الدم، بل ربما يكون سبب تورط المسلمين جميعاً في حروب طائفية لن يستفيد منها أحد غير أعداء الأمة، وأنا شخصياً لا أصدق أنه هو يصدق أن الشعب السوري قام بثورته لأنه يريد ارتماء في حضن الولايات المتحدة أو فرنسا أو إسرائيل، ولا أصدق أنه يصدق نفسه حين يرى الشعب السوري إرهابياً تكفيرياً يجب قتله وتدميره وإبادته بالصواريخ، وأن "الفرقة الناجية" وحدها هم أولئك الذين يدوسون بالبوط العسكري على وجوه الشباب، ويدعسونهم وهم يرددون بغطرسة "بدكم حرية؟"! فهؤلاء الذين أطلقوا شعار "شبيحة للأبد" في حفل رئاسي رسمي، هم الذين استجلبوا العصابات المسلحة، وهم الذين أرغموا الشعب بعد ثمانية شهور من الصبر على أن يحمل بعضه سلاحاً ليدفع البوط والمدفع والطائرات التي تلقي قنابل الموت على السوريين. ويبدو مثيراً ومدهشاً أن يقف صاحب خطاب "المظلومية" ضد المظلومين، وأن يشوه وجه الثورة السورية ويعمي أهدافها البسيطة، وإن كان يرد الجميل للنظام ناسياً موقف الشعب، فإنما تكون نصرة الظالم بإيقافه عن الظلم، وكان على حسن نصر الله لو أنه بقي بمكانته عند الشعب السوري أن يعين النظام الحليف على إيجاد مخرج صدق، لا أن يزيد النار لهيباً، وهو يعلم أن هذه الحرب ستهزم سوريا ولبنان معاً، ولن تمحو طائفة فيها طائفة أخرى. ولكم يبدو مفجعاً أن تتجه نيران "حزب الله" لمقاومة الشعب السوري المناضل من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة، ولو أنه نال شيئاً منها على الطريقة المغربية -مثلاً- لكفى الله السوريين جميعاً شر القتال! إن كل ما يقال عن مؤامرة كونية ضد سوريا بدأ وهماً ولكنه صار حقيقة، فقد اكتملت خيوط المؤامرة الدولية ضد الشعب السوري وكثير ممن يدعون صداقة سوريو ينتظرون أن يدمر السوريون بعضهم بعضاً، ومن أخطر الأخطاء التي وقع فيها النظام أنه صم أذنيه منذ البداية عن كل نصح عاقل، وبات يعتبر من يواجهه بأخطائه ويقدم له الحلول السليمة والرأي السديد عدواً له، وقد نسي أصحاب القرار أن صديقك من صدقك، وهكذا خسر أقرب أصدقائه إليه وأخص قطر والسعودية وتركيا وفرنسا. وها هي ذي النتائج تؤكد أن الكبر والعناد والإصرار على الحلول القمعية قد ضيعت سوريا، وشردت شعبها، وأخشى أن تخرجها من التاريخ عقوداً قادمة، وأن تعود إليها ممالك الطوائف التي غيبت سوريا في التاريخ ألف عام، وعلى رغم كل ما حدث من فواجع، فإن طوق النجاة لسوريا ما زال موجوداً لو توافرت الإرادة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.