مع أن مفاوضات جولة الدوحة لتحرير تجارة الخدمات متوقفة من الناحية العملية، وذلك بسبب الخلافات العميقة بين البلدان الغربية ومجموعة "بريكس" بصفة أساسية، إلا أن تحرير التجارة الدولية يسير بخطى حثيثة وسريعة بصورة غير مباشرة من خلال اتفاقيات التجارة الحرة بين البلدان والمجموعات الاقتصادية. وإذا ما استثنينا الاتحاد الأوروبي الذي دفعته الأزمة المالية للانتقال إلى مرحلة متقدمة جداً من الاتحاد والتنازل عما يعرف بالسيادة الوطنية من أجل تعزيز مواقعه التنافسية، فإن هناك العديد من التوجهات الجادة بين مختلف البلدان والتكتلات الاقتصادية لإقامة مناطق للتجارة الحرة، مما يعني إحداث تحولات جذرية في طبيعة التجارة الدولية التي ستؤدي إلى تحريرها بصورة كبيرة. وبالإضافة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، هناك بلدان "النافثا" التي تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وكذلك بلدان رابطة جنوب شرق آسيا "آسيان"، إضافة إلى المفاوضات الجارية بين أكبر اقتصادين آسيويين، الصين والهند، لإقامة منطقة للتجارة الحرة، متجاوزين في ذلك خلافاتهما السياسية ونزاعاتهما الإقليمية من أجل تقوية قدراتهما التنافسية في الأسواق العالمية. والتطور المثير في هذا الجانب الذي ستكون له تداعيات كبيرة على التجارة الدولية، هو ما اتفق عليه مؤخراً بين 16 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادي، من بينها ثاني وثالث أكبر اقتصادان في العالم، الصين واليابان، لإقامة أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم. ويسعى هذا التجمع إلى التوصل إلى اتفاق بحلول عام 2015 حيث ستتم بموجبه إقامة منطقة للتجارة الحرة تشمل 3 مليارات نسمة، أو ما يعادل نصف حجم السوق العالمية، وتستحوذ على ثلث إجمالي الناتج المحلي العالمي. وضمن تداعيات أخرى عديدة، فإن ذلك يعني اشتداد حدة المنافسة في الأسواق، مما يضع البلدان والمجموعات الاقتصادية الصغيرة في موقف حرج بسبب الصعوبات المتوقعة الخاصة بإمكانية تنمية صادراتها للأسواق الكبيرة التي ستعاني فيها من فرض رسوم جمركية، في الوقت الذي ستعفى فيه منتجات منطقة التجارة الحرة من هذه الرسوم. ويبدو أن مسألة السيادة الوطنية للقرار الاقتصادي أضحت أقل حساسية وأهمية للبلدان الكبيرة التي ترى أن المكاسب التي ستجنيها من التحالفات الاقتصادية تتجاوز تخليها عن جزء من سيادتها الوطنية في الجانب الاقتصادي، في حين لا زالت البلدان الصغيرة، كالبلدان العربية تعاني من حساسية شديدة في هذا الشأن، حيث لا زالت منطقة التجارة الحرة العربية تواجه صعوبات منذ الاتفاق عليها في عام 2002. يحدث ذلك في الوقت الذي تعتبر فيه الاقتصادات الصغيرة أكثر حاجة لإقامة مناطق للتجارة الحرة، فحجم اقتصاداتها لا يسمح بتنمية القطاعات الإنتاجية بدون وجود منافذ تصديرية تتيح التوسع في الإنتاج وتخفيض التكاليف ورفع القدرات التنافسية، مما يتطلب منها إعادة النظر في قراراتها الاقتصادية السيادية لتتناسب والتغيرات الدولية. ومن الواضح أن التوجه نحو تحرير التجارة الدولية التي ستنمو بمعدل 3,3% هذا العام لتصل إلى 19 تريليون دولار، وفق منظمة التجارة العالمية، سيأخذ مداه في السنوات القادمة، فالبلدان والتكتلات الاقتصادية الكبرى تدعم هذا التوجه وتساهم فيه من خلال خطوات عملية. ولذلك، فإن التجاوب مع هذا الاتجاه العالمي والسير باتجاهه يمثل أولوية للبلدان الصغيرة، سواء بتأسيس تكتلات وتوحيد السياسات الاقتصادية، كما هو الحال في دول مجلس التعاون الخليجي، أو بالدخول في التكتلات الإقليمية الكبيرة، كما هو الحال مع لكسمبورج وسلطنة بروناي، ذلك البلدان الصغيران، مع التمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي بالنسبة للأول، وفي مجموعة آسيان بالنسبة للثاني. والراهن أن هذه التطورات السريعة لا تتيح الكثير من الخيارات، فمع مرور الوقت تزداد المنافسة شراسة ليتغير معها العديد من الثوابت في العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، مما يتطلب في المقابل سرعة التأقلم مع هذه التطورات والاستفادة منها وتسخيرها لصالح تعزيز النمو وتحسين ظروف المنافسة.