يعيش المصريون حالة تمزق بين عاصفة إعلامية وهدوء رسمي، فجأة تحولت برامج "التوك شو" بالفضائيات المصرية ومعها مانشيتات الصحف إلى حالة عاصفة مع وصول نبأ قيام إثيوبيا بتحويل مجرى النيل الأزرق مؤقتاً لإقامة سد النهضة. خذ مثلاً مانشيتاً من إحدى الصحف الحكومية «العطش قادم»، وآخر مثيلاً له من صحيفة خاصة «نهضة إثيوبيا تحمل العطش لمصر». إنهما يزرعان الرعب في قلوب الشعب المصري من ظاهرة نقص المياه القادمة وتبعاتها في نقص المساحة المزروعة. لقد وصل الأمر بأحد المتحدثين في فضائية إلى استدعاء مجاعات حلت بمصر في القرن الحادي عشر الميلادي، وراح يستخرج من بطون التاريخ حكايات عن اضطرار الناس مع اختفاء الزرع والضرع إلى اختطاف الأطفال والنساء واتخاذهم طعاماً. وعلى الناحية الأخرى قابلت الجهات الرسمية الأمر بهدوء شديد، فقد قال وزير الري العائد من رحلة إلى إثيوبيا تعليقاً على العاصفة الإعلامية إن موقف مصر يتمثل في عدم معارضة أي مشروع تنموي في أي دولة من دول حوض النيل، مع التأكيد على عدم الإضرار بدولتي المصب مصر والسودان، وأن تحويل الأنهار عند مواقع إنشاء السدود إجراء هندسي بحت يهدف إلى إعداد الموقع لبدء عملية البناء، ولكن عملية التحويل لا تعني منع تمرير أو جريان المياه. وكذلك قابلت الرئاسة الأمر بالتأكيد على أن الخطوة الإثيوبية لا تؤثر على حصة مصر من المياه، وتبعتها وزارة الخارجية ببيان يؤكد أن قرار الحكومة الإثيوبية ليس مفاجئاً وأن القاهرة كانت على علم به منذ فترة. إن هذا الهدوء الرسمي لا يرضي الإعلام فيلوم الموقف الرسمي ويعتبره في حالة غياب وعي أو غيبوبة عن الواقع الخطر. كان لابد لي شخصياً لكي أفهم دلالة الأمر بدقة أن أبحث عن إجابة عند خبراء بعيدين عن الأهواء السياسية، وأظن أن معظم المثقفين قد فعلوا ذلك. قال الدكتور محمود أبو زيد وزير الموارد المائية والري الأسبق ورئيس المجلس العربي للمياه إن تحويل المجرى عملية مؤقتة تستهدف تجفيف موقع وضع الأساسات والبدء في إنشاء سد النهضة الإثيوبي، ثم يعود المجرى إلى طبيعته عند وصول المنشأ إلى مرحلة تسمح بتمرير المياه وتوليد الكهرباء. وإذن نفهم أن المسألة كلها فنية ومؤقتة، وأن المسألة لا علاقة لها بقطع المياه عن مصر أو تعطيشها. وهذا هو جوهر الموضوع الذي يهمنا. غير أن "أبو زيد" يبين بعض الجوانب التي تمثل الأزمة في الموضوع، وهو أن هناك لجنة ثلاثية تبحث الآثار السلبية التي يمكن أن تنتج عن المشروع بالنسبة لمصر والسودان. غير أن الإثيوبيين سارعوا إلى تحويل المجرى دون انتظار الرأي الفني للجنة التقييم الثلاثية، هذا بالإضافة إلى عدم اعتراف إثيوبيا بحصة مصر والسودان التاريخية في مياه النهر. وبيّن أن التأثير على حصة مصر من الناحية الفنية يتوقف على سنوات ملء الخزان أمام السد. إن رأي «أبو زيد» يبدو في نقطة وسط بين عاصفة التخويف الإعلامي وبين الهدوء الرسمي، فهو يعترف بجوانب في الأزمة، ولكنه لا يشارك حملة التبشير بالعطش.