الانطباع الأول الذي يمكن أن يخرج به أي إنسان من فكرة استعانة الإمارات وغيرها من دول العالم ببعض الموظفين من خارجها وخاصة من يطلق عليهم «الخبراء»، يتمثل في الاستفادة من التجارب المعرفية والحضارية التي تراكمت لديهم في الدول التي يتبعونها، عبر تجارب عملية وإنسانية. وفي ظني أن هذا الانطباع منطقي وعملي. الإمارات واحدة الدول التي تعتمد في مواكبتها للتظاهرات العالمية على الاستعانة ببعض العقول والتجارب من الدول التي سبقتها في مجالات معينة. ويعتبر مجال تنظيم الفعاليات العالمية، مثل المعارض، من أهم تلك المجالات. ولو ألقينا نظرة على حجمها في الإمارات سنجد أنها تستحوذ على حوالي 50 في المئة في منطقة الشرق الأوسط. شاء حظي أن التقي خلال فعاليات معرض لندن للكتاب في إبريل الماضي بشخص كان يعمل خبيراً في إحدى المؤسسات الحكومية في الدولة في مجال تنظيم المعارض باعتبار ما لديه من تراكم معرفي في مجال صناعة المعارض وتنظيمها. وكان طبيعياً بالتالي أن أسأله عن الفرق بين تنظيم المعارض في لندن حيث يعمل الآن وبين الإمارات، على الأقل بهدف استكشاف طريقة تفكيره. طبعاً كانت إجابته بأن هناك فرقاً كبيراً خاصة في مجال المعارض المتخصصة إذا تجاوزنا معارض الكتب في الإمارات التي لها خصوصية معينة باعتبارها «مهرجانات ثقافية». وضرب لي مثالا لتقريب فكرته واختار معارض المجوهرات وأكد أنه في مثل هذه المعارض في دول العالم لا يسمح (للعارض) بإدخال أكثر عدد معين من القطع فيها وأن في الإمارات يتم تجاوزها. طبعاً الحال ينطبق على معرض الكتاب في لندن ومعرض نيويورك وكذلك فرانكفورت حيث لا يسمح ببيع الكتب للجمهور أثناء المعرض وإنما الأمر يقتصر على عقد الصفقات التجارية. وفي معارض أبوظبي المتخصصة يمكن أن تجد غير الذهب في المعرض مثل الملابس وغيرها من الأشياء بما فيها الأعشاب الطبية، مع أن الإمكانيات الموجود فيها تفوق الموجودة في لندن وفرانكفورت. وعندما سألته: ماذا يمكن أن تكون ردة فعل إدارة معرض لندن إذا تجاوز عارض وقام ببيع بعض سلعه أو جاء آخر بشيء مختلف؟ كان رده سريعاً بأنه تتم معاقبته وربما يحرم في المرة القادمة من المشاركة في المعرض، أي أن هناك قواعد ولوائح تنظم العمل فيها. هنا قلت له إنه تم استقطابك لهدفين اثنين: الأول أن تضع خلاصة خبرتك العملية وتجربة بلادك الناجحة في مجال تنظيم العمل في المعارض العالمية والمعرفة التراكمة عبر السنوات والتي تفتقدها دولة نامية مثل الإمارات، لكن يبدو أنك لم تفهم دورك الحقيقي ولم ترغب في أن تكون أميناً مع المؤسسة التي تمنحك امتيازات مادية ومعنوية للقيام بما تعاقدت به. أما الهدف الثاني الذي يفترض أنك أتيت من أجله؛ فهو تأهيل فريق عمل إماراتي يستطيع تفهم طريقة بلادك الناجحة في مجال تنظيم المعارض، وصولا إلى تبنّي طرق تفُوقُها، طالما تعترف أن الإمكانيات المادية في الإمارات تتجاوز نظيرتها في لندن وفرانكفورت. الإمارات لديها كفاءات بشرية مواطنة يمكنها أن تحل محل الموظف الأجنبي إذا كان يأتي إليها ليكون موظفاً عادياً. حسناً تفعل الإمارات عندما تستقطب العقول التي سبقتنا في مجالات العمل المختلفة، وأكاد أجزم أنه لا توجد دولة في العالم لا تستعين بالأجانب. وبما أن الأمر ينطبق على العديد من مؤسساتنا المحلية في مجال الاستعانة بالخبراء، فإن الصورة ستكون أكثر جمالا لو وضعنا شروطاً معينة لاستقطابهم على الأقل في مجال تكليفهم بتدريب المواطن الإماراتي الذي سيكون قادراً على أن يحل محلهم خلال سنتين على الأكثر. حين ينفتح النقاش عن دولة الإمارات نجد هناك ميلا للناس نحو العمل والعيش فيها ليس فقط من أجل المقابل المادي، ولكن أيضاً لأنها بلاد جميلة من حيث الأمن والأمان والسمعة التي تحظى بها نتيجة للجهد المبذول فيها، ولهذا يمكننا انتقاء من يفيد الإمارات. تجربة ذلك الخبير ذكرتني بقصة ذكرها أحد الذين عملوا في إحدى مؤسساتنا المحلية لفترة زمنية على اعتبار أنه خبير، وعندما قدّم استقالته طالباً نهاية خدمته ذكر لنا بأن المؤسسة التي كان يعمل فيها لم تعرف كيف تستفيد من إمكانياته، إذ لم يتعدى جهده فيها نسبة 20 في المئة من إمكانياته. لو أسقطنا هذا التصرف حول معيار احترام قيم العمل في أي مكان في العالم على مثل هذا الموظف وغيره، نجد أن المؤسسة كانت أكثر احتراماً وذوقاً منه. نحن نحتاج إلى العقلية البريطانية في مجالات كثيرة يفترض أنها تسبقنا فيها بمراحل، باعتبارها دولة لها تجربتها التي تتجاوز المئة عام في بعض المجالات، لكننا لا نحتاج إلى موظف من «بريطانيا» أو غيرها لأن الأمر سهل، هذا ما يجب أن يدركه من يأتي للعمل في الإمارات. الإمارات باتت اليوم مكاناً لصناعة الخبراء، بل إن العمل في الإمارات دليل على كفاءة الموظف، لذا فالإضافات التي يمكن أن يقدمها الآخرون لها تبقى محدودة إذا لم يستوعب الخبير الهدف الأساسي من استقطابه، بل هناك كثيرون يأتون للإمارات لـ«صناعة سير ذاتية» لهم تمكنهم من العمل في أماكن أخرى من العالم. والذي يتابع الإمارات من الخارج يجد أن هناك إجماعاً على أنها قطعت شوطاً كبيراً في تحقيق التنمية، وأنها استطاعت تغيير الكثير من الأفكار عن المحيط الذي هي فيه، لذا ينبغي الانتباه إلى من يمكن أن يصنعوا لنا فارقاً. أميل دائماً إلى إلقاء اللوم على الخبير الذي يأتي للعمل عندنا فلا يقدم جديداً لأن المسمى الذي يحمله أحد شروطه أن يقدم النصيحة حول صحة ما يقوم به من عدمها. كما أن الخبير يختلف من حيث الإنتاج، لذا نحتاج إلى «العقول» وليس الموظف الأجنبي. المسافة بين ما نعرفه نحن الإماراتيون عن قدراتنا وبين ما يعتقده البعض عنا تمثل إحدى الفجوات لمن يأتون إلينا للعمل، إذ لا يدركوا بأننا أصبحنا دولة تصدر خبراء قد لا يكونون إماراتيين، ولكن البيئة التي صنعتهم إماراتية.