أعلن الرئيس الفرنسي «فرانسوا أولاند» إنشاء مرصد للعلمانية يعهد إليه بإعداد تقرير موسع حول التحديات التي تعانيها المنظومة اللائكية الفرنسية والإصلاحات التي يتوجب إدخالها على هذه التجربة التي بدأت عام 1905 ، وصولاً لقانون جديد مرتقب خلال أشهر ثلاثة. كان الرئيس السابق «ساركوزي» قد قام بمبادرة مماثلة في اتجاه ما دعاه «العلمانية المنفتحة» في مقابل المقاربة اللائكية التصادمية مع الدين. تزامنت مبادرة «أولاند» مع تقرير أصدرته «اللجنة الأميركية حول الحرية الدينية في العالم» انتقد بشدة بلدان أوروبا الغربية في تعاملها مع الحريات الدينية، متحدثاً عن «تجاوزات خطيرة» ضد الأقليات الدينية في فرنسا وسويسرا وبلجيكا، استهدفت على الخصوص الجاليات المسلمة. وقد اعتبر التقرير أن «المضايقات»، التي تعرضت لها الجاليات المسلمة (مثل تحريم الحجاب في المدارس والفضاءات العمومية وتقييد تشييد المنارات بسويسرا) بدلاً من أن تفضي إلى تشجيع الاندماج الوطني في البلدان المذكورة، أدت إلى تعميق حالة التميز الديني والثقافي لدى المجموعات المسلمة. تبين هذه المعطيات أن تسيير المسألة الدينية- السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية يطرح إشكالات متزايدة في اتجاهين يستقطبان في أيامنا الدراسات الفلسفية والاجتماعية: الاتجاه الأول: يتصل بمنزلة الدين في الشأن العمومي، التي تتحدد وفق مبدئي التمييز بين دائرتي القناعات الفردية والقيم العمومية المشتركة والتمييز بين الدولة بصفتها إطار الكيان العمومي والمجتمع المدني من حيث هو أرضية الفاعلية الفردية والنشاط الأهلي. وإذا كانت البلدان الديمقراطية الغربية تتفق إجمالاً في إزاحة الدين من تدبير الحقل العمومي، إلا أنها تختلف في خيارات تبني واستيعاب الدين من حيث خلفياته ومقوماته الثقافية والحضارية المرتبطة أحياناً بمرتكزات الهوية الجماعية. فالمعروف أن الدستور الأيرلندي ينص على تمجيد عقيدة التثليث المسيحية، في الوقت الذي تعتمد اليونان الأرثوذكسية ديانة رسمية للدولة، وتتبنى الدانمارك الكنيسة اللوثرية ديانة قومية، وتكاد تنفرد فرنسا باللائكية خياراً دستورياً ونظاماً قانونياً. وكان موضوع المرجعية الدينية للهوية الأوروبية، قد أثار قبل سنوات جدلاً واسعاً في سياق مقاربة تصميم دستور للمجموعة الأوروبية المندمجة. المبدأ الثاني: يتعلق بمنزلة الدين في الممارسة الفردية والجماعية، أي واقع التدين في مجتمعات تعيش ما أطلق عليه «ماكس فيبر» ظاهرة «التبصير» الناتج عن العقلنة في بعديها التصوري والإجرائي. تبين كل الأرقام المنشورة أن نسبة التدين تراجعت في بلدان أوروبا الغربية إلى مستويات متدنية، رغم ما لوحظ خلال السنوات الأخيرة من تنامي نزعة الانتقاء الديني (المزج بين معتقدات وطقوس ترجع لديانات مختلفة)، ومن عودة الفضول الفكري للقضايا الدينية في أبعادها الفلسفية واللاهوتية. في هذا السياق يقول الفيلسوف الفرنسي «ميشل سر» إنه عندما كان في السبعينيات يريد أن يستقطب اهتمام طلبته يحدثهم في السياسة، وعندما يريد إثارة استهزائهم يحدثهم في الدين. وقد انقلبت الصورة في السنوات الأخيرة، فأصبحت السياسة موضوع الاستهزاء والتندر وغدا الدين الموضوع الجدي الذي ينتزع الاهتمام. كيف ينعكس الحوار في سياقنا العربي الإسلامي الذي يشهد تحولات متسارعة وجدلاً خصباً ومتوتراً حول مرتكزات الشرعية السياسية، في ما يتصل منها على الأخص بمنزلة الدين ومرجعيته؟ وإذا كانت المؤشرات العينية الملموسة تؤكد بما لا شك فيه أن الممارسة الدينية مرتفعة ومستقرة في البلدان العربية الإسلامية، إلا أن الظاهرة التي لا بد من ملاحظتها هنا هي أن هذه الممارسة البارزة تخفي تنوعاً غير مسبوق في أشكال التدين الفردي والجماعي، مما يعني انهيار كل البنيات المؤسسية للاعتقاد الجماعي، وهي في تعبيرها العميق مظهراً للسمات المألوفة في المجتمعات الحديثة. ولا شك أن تحدي التنوع الديني، الذي وصل في بعض الساحات إلى حالة الاشتباك الطائفي، بل الصراع المسلح والفتنة الأهلية سيفرض في نهاية المطاف نمطاً من حياد الدولة إزاء أنماط التدين المتعايشة، بالتزامها بالمرجعية الرمزية العليا للدين وليس بإحدى تأويلاته أو مقارباته التصورية أو المعيشية. والواقع أن لا أحد يسعى في البلاد العربية إلى تصدير العلمانية الأوروبية، بل إن النقاشات الدستورية الحرة التي شهدتها في السنوات الثلاث الأخيرة بلدان «الربيع العربي» أكدت إجماع الطبقة السياسية على الاحتفاظ بالإسلام ديناً للدولة ومرجعاً أحادياً أو أساسياً للتشريع. وليس هذا الموقف الإجماعي حصيلة صفقة ظرفية أو تعبيراً عن تكتيك القوى العلمانية العربية، وإنما هو نابع من رؤية عميقة للخلفية الرمزية الوحيدة للدولة العربية الإسلامية التي استندت في نشأتها ورصيدها المفهومي وإرثها التاريخي للدين. ومن هنا ندرك كيف أن مفكراً تنويرياً لا يخفي ميوله العلمانية مثل «هشام جعيط»، يرى أن الدولة العربية لا يمكن أن تكون مناوئة للدين، ولا منفصمة عنه أو محايدة عن اتجاهه. ويصدق هذا الحكم على أغلب المفكرين العرب الذين تناولوا موضوع الدولة مثل عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان. الدين هنا ليس بطبيعة الأمر المنظومة العقدية أو التشريعية في تفصيلاتها وتمفصلاتها، وإنما هو معين الهوية والأفق الحضاري والتقليد الثقافي الذي يولد المعنى والقيم ويشد لحمة النسيج الاجتماعي. الدين هنا أقرب لمفهوم «الديانة العمومية» في الولايات المتحدة، الذي اعتبره «دي تكتوفيل» خصوصية أميركية تضمن في آن واحد حرية التدين وتعايش الديانات والملل (مما يفسر تميز المجتمع الأميركي بارتفاع نسبة التدين اعتقاداً وتطبيقاً) ومدنية الدولة وسمتها الديمقراطية القوية. إنما كشفت عنه معطيات الواقع العربي الراهن، هو تأزم وتراجع نموذج الإسلام السياسي الناتج عن تعثر إنْ لم نقل فشل تجارب حكومات التنظيمات الإسلامية، التي تولت مقاليد الأمر العام في عدد من البلدان، مما يقتضي إنقاذ الإسلام ديناً وفكراً وثقافة في هذا المأزق المتفاقم. كتب في إحدى لافتات ميدان التحرير بالقاهرة، «الإسلام هو الحل لكن الإخوان هم المشكل».