ليست هذه المرة الأولى التي أشارك أو أتابع فيها حلقات الاستشراف عربياً أو أفريقيا، ولذا قبلت حضور تلك الأخيرة في تونس مؤخراً مايو 2013، لأشهد إحدى حلقات «التشاؤم العربي»، بعد أن كان «الحلم العربي» ينافس دائماً التشاؤم الأفريقي المعروف! وقد لاحظت أن دعوات الاستشراف باتت ترتبط في ذهني، ليس، باستطلاع آفاق الحلم كما نتوقع، لكنها تأتى عقب الإحساس بالأزمات، ومن ثم فهي بحث في الخروج من المأزق أو حتى استباقه بدلاً من التطلع إلى عالم جديد، رغم عناوين مثل بحوث المستقبل أو علم المستقبليات. هكذا بدا الحال منذ ثمانينيات القرن الماضي، مع بداية أزمة الطاقة والبترودولارات، بين أوروبا والعرب، ثم إحساس العرب بالقلق على ثرواتهم الجديدة، فتعددت حلقات بحث الاستشراف من بيروت إلى عمّان إلى القاهرة بآفاق ارتبطت بمطلع القرن الحادي والعشرين أو عام 2020. ومع توقع أدوار جديدة في التطور العربي للطبقة الوسطى سواء في الخليج أو في مصر أو على المستوى العربي عموماً، فقد انتهى أحد الاستشرافات المتفائلة ليعقبه غزو الكويت! وجاء الثاني لتعقبه أحداث سبتمبر 2001، أو معاندة مبارك للحراك الديمقراطي والطبقي في مصر منذ 2004. هكذا حضرت حوارات تونس، وأنا مشبع بشحنة من التشاؤم، خاصة وأنا القادم من القاهرة، تاركاً خلفي أزمة الإرهاب في سيناء، بل ومع بوادر حلها بإنقاذ الجنود، وتحول «ظاهرة سيناء» في الواقع المصري كظاهرة سياسية، وتجعل ما نسميه بـ«الإرهابيين» حقائق اجتماعية مرة بعنوان «السلفية » وأخرى باسم «الجهوية»، أو أطراف مصر الضاربة في المخاطر من مطروح إلى النوبة إلى رفح وحتى حلايب وشلاتين! وكدت ألا أتحدث من جانبي عن الحالة المصرية، لفرط معرفة الآخرين بها، والتألم لآلامها، لكن كلمات الافتتاح وما أعقبها جعلت الجميع يتحدث عن «العمى الاستراتيجي» الممتد، وعن أنه «ما لم تكن صاحب خطة- فأنت جزء من خطة غيرك»! أو حديث البعض عن بدء الاستشراف مبكراً حول العرب منذ محاولات شركة شل نفسها في هذا الصدد، وتبعتها موجات الاستشراف على مستوى عالمي. لكن البعض راح يطمئن بأنه عقب الثورات الكبرى يكون الموقف مثيراً للتشاؤم، إلى أن يستقر الحال مع مكاسب الثورة! إمعاناً في تشاؤمي الشخصي، قلت إن العرب خرجوا مرة مبكرة من التاريخ بعد أن جمعوا ثروات العالم من ذهب أفريقيا إلى توابل شرقي آسيا، ثم بقوا تجاراً، بينما مضت الرأسمالية التحديثية الأوروبية بعيداً في مستقبلها الذي نراه، وها هم العرب يعودون إلى الثروات الريعية بالبترول مشرقاً ومغرباً وجنوباً، لكنهم يبدون مصممين على الخروج مرة أخرى من التاريخ! والمأزق الآن أنهم أمام «مشروع ثورات» تطرح عشرات الأسئلة وفرص التقدم وعبور المأزق، ومع ذلك مازلنا نغازل عناصر الفشل! وكان عرض بعض الحالات العربية ملفتاً حول التردد بين الفشل والأمل! ففي ليبيا جاء الحديث أولاً عن شدة التصارع بين سكان المدينة الواحدة أو الحي الواحد ممن كانوا نسبة ملحوظة مع النظام السابق، ونسبة مع الثوار الجدد. وعلينا تصور الموقف «الصراعي» عقب الانتهاء إلى انتصار «الثورة» وفتح مخازن الأسلحة، في حالة افتقاد وجود الدولة أصلاً، مما جعل مظاهرة أو اعتصام البعض، يعنى تجمهر عدد من الدبابات، وحاملي المدافع أمام باب وزارة محاصرة. لكن صورة أخرى تبدو من حديث الموالين للمنتصرين في ليبيا حول سيطرة الجيش في بنغازي، وحول انتظام أعمال «المؤتمر الوطني» ووجود أكثر من ثلاثين سيدة منتخبة في المؤتمر بما لم يتوافر لكثير من العواصم العربية. ومعنى ذلك بداية استقرار «مفهوم الدولة» الذي كان مفتقداً! بل وهمس البعض بأن ما نخشاه من نفوذ قطر، أو حلف «الناتو» آخذ في الانحسار ، و«حالة قطر» معروفة في بنغازي في هذا الإطار. موجات أخرى من التشاؤم والتفاؤل هبت على المؤتمر من الجزائر، حيث أزمة «صحة الرئيس» وتداول السلطة، ناهيك عن أزمة الجنوب الجزائري، ومأزق فرنسا في مالي، والسلاح على امتداد الصحراء الكبرى جنوب البلاد، بل واستمرار المشكلة الصحراوية! لكن ممثلي مراكز البحوث الجزائرية بدوا متفائلين إلى حد كبير، فثمة تمترس وراء الدولة الوطنية في الجزائر، ونجاح مضطرد لعمليات المصالحة الوطنية، والجيل الجديد من المحاربين القدامى، لديه تصور أعمق «لهذه الدولة»، عن جيل سيطرت عليه فيما يبدو المصالح الضيقة، ومن ثم فهناك انفتاح يستوعب الأزمة ويجنب البلاد - ولو بطريقة أخرى غير استيعاب المغرب- للأزمة التي أدت للانتفاضات المختلفة! إذن...أين المآزق في بلاد الثورة أو الانتفاضات العربية؟ بدأت العودة إلى التحليلات النظرية مرة أخرى، وبدأت بالفعل بمشكلة افتقاد التحليل الاجتماعي، وحتى الطبقي المتفهم للواقع في مجتمعات الثورات وغيرها، وإلا كان لابد من انتباه قوى الشباب والمرأة والتنظيمات المدنية وغيرها. واتهمنا فلاسفة الاستشراف بتغييب ذلك في تقاريرهم الشهيرة عن «التنمية»...الخ، وفوجئنا بأحد «الخبراء الدوليين» يقول إنهم يتابعون عادة مشكلات الواقع معترفاً بأننا نتنبأ بكثير من أنواع الحراك، ولكن لا نحلل ردود «أفعال الجمهور» المفعول به! ولذا يغيب التنبؤ بالثورة. وتجرى مخاطبة «الحكومات القائمة» في النهاية! هنا برز محللون إسلاميون في الاجتماع لينددوا بافتقاد تحليل رؤية «القوى الإسلامية» أثناء القيام بعمليات الاستشراف أو تحليل الاستراتيجيات، وأضفت من جانبي أنهم لم يحللوا كذلك وثائق المعارضة التي تنبأ بعضها بمليونيات تطيح بالنظام بعد موجات الاحتجاجات في بلد كمصر. وهذا ما يبدو عند نقاش «الدساتير» بعد الثورة لغياب الرؤية المتبادلة، ونبهنا هنا أحد القانونيين بأنه رغم توقف «القانوني» عند الأمر الواقع، لكنه يرجو من المفكرين أن يعتبروا «وثيقة الدستور» وثيقة استراتيجية للمستقبل، فالدستور في تقديره، نص استراتيجي استشرافي أساسي، وليس تقرير أمر واقع، كما يتصوره الإسلاميون بمنطق القانونيين، استجابة لمطالبهم الملحة. ونبه أحد الأتراك إلى تطور الإسلاميين في تركيا إلى «النظرة المجتمعية»، وليس مجرد التطلع إلى «السلطة بالدولة»، كما يبدو له حال إسلاميي الشرق! كادت بعض الخلافات تحتد مع ممثلي التيارات الإسلامية وخاصة السلفية في المؤتمر، حول وضع المرأة وحول العولمة وحول القبول بشروط البنك الدولي، ورفض القبول بتقديم البعض لأوراقهم بالفرنسية! وحول تحليلات الموقف في سوريا مع سفر وفد تونسي من حوالى عشر منظمات حزبية ومدنية لمقابلة بشار في دمشق. هنا بدأ الانتقال إلى الجزء الثاني من الندوة، حول أزمة الطاقة وتنوع جوانبها، صعباً على الفهم، ولم يخفف الندم على صعوبة متابعتها إلا التشاؤم السائد أيضاً من عجز المنطقة العربية كلها عن متابعتها.