«قاموا بعمل غير قانوني ضدي منذ البداية وانتهكوا حقوقي... وأحمِّلهم مسؤولية أي مكروه يصيبني... إلى اللقاء يا شعب جواتيمالا»، تلك آخر عبارات وردت في آخر تسجيل مصور للرئيس الجواتيمالي السابق ألفونسو بورتيو، وهو يصعد سلّم الطائرة العسكرية التابعة لسلاح جو بلاده، وكان مكبّل اليدين وتحت حراسة عناصر من الشرطة الأميركية. أما وجهة انطلاق الطائرة فإلى واشنطن التي أصدرت قبل عدة أعوام مذكرة باعتقال بورتيو، ليصبح أول رئيس سابق لدولة في أميركا اللاتينية تسلمه بلاده إلى الولايات المتحدة. وقد عاش بورتيو السنوات الثماني الماضية الأخيرة مطارداً من قبل قضاء بلاده، ثم دخل القضاء الأميركي على خط المطاردة، متهماً إياه بارتكاب جرائم غسل أموال أثناء وجوده في الحكم. وكان بورتيو قد أصبح رئيساً لجواتيمالا بين عامي 2000 و2004 ، ثم ما أن غادر السلطة حتى بدأت الحكومة الجديدة ملاحقته داخلياً وخارجياً، إلى أن تم أخيراً ترحيله إلى الولايات المتحدة الجمعة الماضي. وقد ولد ألفونسو انطونيو بورتيو كابريرا عام 1951 بمدينة «ساكابا»، في شرق جواتيمالا، لكنه تلقى تعليمه الجامعي في المكسيك، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم الاجتماعية من جامعة «جيريرو» المستقلة في تشيلبانسينجو، وعلى شهادة الدكتوراه من جامعة المكسيك الوطنية المستقلة في مكسيكو سيتي. أما حياته السياسية التي اتصفت بالتقلب والتبدل، فبدأت في أواخر السبعينيات بالانخراط في «الاتحاد الثوري الوطني الجواتيمالي» الذي نشأ كحركة متمردة قبل أن يضع سلاحه في عام 1996 عقب نهاية الحرب الأهلية في البلاد. وخلال الثمانينيات ألقى بورتيو محاضرات في العلوم السياسية بجامعة تشيلبانسينجو المكسيكية. وفي تلك الفترة أطلق النار من بندقيته مردياً إثنين من طلاب الجامعة، فيما قال إنه كان دفاعاً عن نفسه، بينما يؤكد خصومه السياسيون أنه قتل الطالبين في «مشاجرة» داخل إحدى الحانات، لكن قاضياً مكسيكياً قرر في عام 1995 إغلاق الملف دون التوصل إلى أي نتيجة مؤكدة. ومن المكسيك عاد بورتيو إلى جواتيمالا في عام 1989، وانضم إلى «الحزب الاشتراكي الديمقراطي»، أحد أحزاب اليسار القليلة التي نجت من القمع العسكري خلال السبعينيات والثمانينيات. ثم انتقل إلى «الحزب الديمقراطي المسيحي» الحاكم في حينه. وفي عام 1992 تم تعيين بورتيو مديراً للمعهد الجواتيمالي للعلوم الاجتماعية والسياسية، وفي العام التالي أصبح أميناً عاماً للحزب، ثم أحد نوابه ورئيس كتلته النيابية في البرلمان عام 1994. لكنه سرعان ما غادر الحزب، لينضم في يوليو 1995 إلى «حزب الجبهة الجمهورية» بزعامة إفراين ريوس مونت، رئيس البرلمان في حينه. ولأن الدستور كان يحظر على مونت الترشح لانتخابات الرئاسة، إذ سبق أن وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، فقد اختار حزبه بورتيو كمرشح عنه، فحصل على 22 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى، و48?7 في المئة في الجولة الثانية، حيث خسر بفارق ضئيل أمام ألفارو أرزو. لكن بورتيو ظل يطمح لكرسي الرئاسة، ففي يوليو 1998 اختاره حزبه مجدداً كمرشح للانتخابات الرئاسية في العام التالي، حيث ركز في حملته على الدفاع عن السكان الأصليين والفلاحين الفقراء، ضد النخب الحضرية والأقلية البيضاء المهيمنة، كما وعد بتحقيق الأمن في مواجهة الجريمة المتنامية... فتعزز موقفه الانتخابي وحصل في الجولة الأولى على 47.8 في المئة من الأصوات، ليفوز في الجولة الثانية بنسبة 68.3 في المئة. لكن رغم برنامجه التجديدي والتقدمي، فإن حكومته سرعان ما غرقت في وحل الفساد وأصبحت ضمن دائرة نفوذ المافيا في البلاد، وباتت عرضة لموجة مستمرة من الاحتجاجات التي استنزفت مصداقيتها، وأصبح «حزب الجبهة الجمهورية» متهماً بجلب الفساد على نطاق غير مسبوق للبلاد، وتلطخت سمعة حكومته باتهامات السرقة وغسيل الأموال عبر إنشاء حسابات مصرفية في بنما والمكسيك والولايات المتحدة، بواسطة موظفين تابعين لبورتيو نفسه، كانوا يتصرفون في أموال تجاوز حجمها المليار دولار أميركي. وفي ظل تلك الأجواء قرر بورتيو الإحجام عن الترشح للانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2003، معلناً تأييده ترشح الديكتاتور السابق مونت لخلافته. لكن الأخير خسر الانتخابات لصالح «أوسكار بيرجر»، مرشح «حزب التضامن الوطني». ومنذ ذلك الوقت بدأ مسلسل متاعب من نوع آخر لبورتيو، فعقب تجريده من الحصانة السياسية في 19 فبراير 2004، فرّ إلى المكسيك، وهناك ظل ينتظر حتى 16 أغسطس حيث منحته سلطات الهجرة المكسيكية تأشيرة عمل لمدة عام، فعاش في شقة بأحد الأحياء الراقية بمدينة مكسيكو، وقيل إن 15 مليون دولار كان قد حوّلها على يد وزير الدفاع في حكومته، هي كل ما بقي لديه، فيما تعتقد السلطات أن رفاقه استولوا على بقية الأموال الأخرى. وبعد مفاوضات طويلة، وافقت المكسيك مبدئياً، في 30 أكتوبر 2006، على تسليم بورتيو إلى جواتيمالا، وهو ما لم يحدث عملياً. إلا أنه أُعتقل في 26 يناير 2010، من قبل السلطات المحلية في جواتيمالا، بالقرب من «بونتا دي بالما»، وذلك من خلال المعلومات التي جمعتها وقدمتها «اللجنة الدولية لمناهضة الإفلات من العقاب في جواتيمالا»، ومدعي عام مقاطعة نيويورك «سايروس فانس». وحينئذ ذكرت التقارير الإعلامية لأول مرة أن حكومة الولايات المتحدة قررت ملاحقة بورتيو فيما يتعلق بتهمة غسيل الأموال. لكن بورتيو ورفاقه، حصلوا من قبل محكمة في جواتيمالا، في 9 مايو 2011، على براءة من تهم الاختلاس الموجهة إليهم، فردت حكومة جواتيمالا بتقديم استئناف على الحكم. بيد أن المحكمة الدستورية الجواتيمالية قضت في 26 أغسطس 2011، بوجوب تسليم بورتيو إلى الولايات المتحدة، مما جعل محكمة الاستئناف تغلق ملفه، صارفةً النظر عن الطعون ضد الحكم الابتدائي الصادر لصالحه. والمثير في السيرة السياسية المتقلبة لبورتيو أن الكثير من تقلباتها اقترنت بمواقف مناهضة للفساد، بما في ذلك انضمامه المبكر إلى اليسار، وانسحابه من «الحزب الديمقراطي المسيحي» عقب اتهام برلمانييه بالضلوع في عمليات فساد. وكان بورتيو في حملته الانتخابية لعام 2000 قد طالب بإضفاء الطابع الأخلاقي على الحياة السياسية، ووعد بمحاربة الفساد واجتثاثه بلا تهاون. وبعد تسلمه السلطة وعد بتحقيق شامل حول فساد الحكومات السابقة... لكن الفساد تفاقم في عهده، وأصبح موضع تحقيق في عمليات فساد كبرى، ستتم مساءلته عن بعضها أمام القضاء الأميركي. ورغم ما يثار حول ترحيله إلى الولايات المتحدة، فإن هذا الموضوع يكاد يخلو من أي خلفيات سياسية، بل ينحصر في ملف الممارسات المالية الفاسدة المنسوبة لبورتيو. محمد ولد المنى