إذا كان «سقوط الحضارة الغربية» وشيكاً فهل سيشمل ذلك الولايات المتحدة الأميركية كذلك، أم تراه يقف عند حدود أوروبا، «القارة العجوز»؟ لقد شهد العالم خلال القرون الخمسة الأخيرة ثلاثة تحولات كبرى، يقول الكاتب الأميركي المعروف «فريد زكريا». كان الأول صعود الحضارة الغربية، الذي بدأ مع القرن الخامس عشر ثم تسارعت جوانب نهضتها في القرن الثامن عشر، وكانت من بين حصيلة هذه العملية التاريخية «الحداثة» كما نعرفها: العلم والتكنولوجيا، التجارة والرأسمالية، بالإضافة الى الثورتين الزراعية والصناعية. كما نجمت عن هذه الحركة هيمنة سياسية ممتدة للغرب على أمم العالم. وكان التحول الثاني صعود الولايات المتحدة مع نهاية القرن التاسع عشر بعد أن أصبحت دولة صناعية، وصارت هذه الدولة الكبرى أقوى أمم الأرض، منذ الامبراطورية الرومانية، وظلت مهيمنة خلال معظم سنوات القرن العشرين على الحياة السياسية والعلمية والثقافية. أما التحول الثالث في تحليل فريد زكريا، فهو الذي نعيشه اليوم، حيث شملت الحضارة والنهضة والتنمية بقية الأمم، وبخاصة في آسيا. فكان معدل النمو مثلاً في 124 دولة خلال عامي 2006و2007 نحو 4 في المئة أو أكثر. ونرى اليوم أن أثرى الأثرياء شخص مكسيكي، وأكبر طائرة نقل روسية، وأعظم مصافي البترول قيد البناء في الهند، وأكبر المصانع في الصين، بل ومن بين أكبر عشرة مجمعات أسواق عالمياً واحد فقط في الولايات المتحدة وأكبرها في بكين. واشنطن فقدت مصداقيتها وامتيازاتها، وبالتالي خسرت قدرتها على القيادة وإقناع الغير، يقول الباحث الأسترالي «توم سويتزر». ولهذا، «يتم تجاهل مطالب واشنطن بشكل متزايد من جميع الأطراف، بدءاً من خصومها التقليديين في طهران وبيونج يانج-كوريا الشمالية، وصولاً إلى أبرز متلقي المساعدات الأميركية في القاهرة والقدس». وفي مؤتمرات القمة العالمية يرفض الألمان مقترحات «أوباما» المالية، وتتمرد الصين على الضغوط والمطالب المتعلقة بمراعاة الوضع المناخي متابعة مسارها الشائك نحو الازدهار، فيما يرفض الباكستانيون قطع علاقة جهاز استخباراتهم مع حركة «طالبان». وبالطبع، يضيف «سويتزر»، لم تكن الهيمنة الأميركية في أوجها بلا ثغرات حتى في سنوات الحرب الباردة. فهي لم تستطع منع الثورتين الكوبية والإيرانية وهزمت في فيتنام. ولكن لا تزال الولايات المتحدة أبرز اقتصاد في العالم، وأهم جهة تُصدر عملة الاحتياط العالمي أو الدولار، وصاحبة أعظم جيش في العالم، وترغب بلدان كثيرة حول العالم في الحصول على الحماية الأميركية، كما لا تزال أميركا بمنجاة من مشكلة زيادة المسنين في نسبة سكانها بسبب سياستها في تقبل المهاجرين. هذه الأمور كلها صحيحة، «لكن النفوذ الأميركي بدأ يتلاشى فعلاً وسيتابع مساره التنازلي، وستصبح الصين أهم اقتصاد في العالم خلال عقد من الزمان». توني كارون، المحلل الأميركي يؤيد كذلك انحدار الهيمنة الأميركية، وإن كان السبب في ذلك أحياناً كثيرة تعقيدات السياسة الأميركية نفسها. فمثلاً، «على مستوى برنامج إيران النووي وعد الرئيس الأميركي، عند تولي منصبه، بتغيير قواعد اللعبة من خلال التواصل مع طهران، لكن سرعان ما أُعيقت تلك المساعي بسبب خليط من السياسات الداخلية الإيرانية وتعالي أصوات مؤيدي استعمال القوة العسكرية داخل إدارة أوباما نفسها، فطالب هؤلاء بالحد من الحوار مع إيران». وتساءلت أستاذة القانون روزا بروكس:هل تسير الولايات المتحدة على طريق التراجع؟ هل بدأ نفوذها العالمي يتراجع فعلاً؟ لقد قال مرشح «الجمهوريين» مت رومني معارضاً الفكرة من أساسها: «أنا أرفض الفكرة القائلة إن مصير الولايات المتحدة هو التراجع الحتمي. ربما يميل أوباما إلى رفع راية الاستسلام ولكن الله لم يخلق الولايات المتحدة لتكون دولة تابعة للآخرين». أما أوباما فقد اعتبر في خطابه عن حال الاتحاد، نافياً عن نفسه انتقادات التخاذل، أن «كل من يعتبر أن الولايات المتحدة بدأت تتراجع أو أن نفوذها يتلاشى لا يعرف ما يقوله». ولكن بعض الدبلوماسيين الأميركان ينتقدون مثل هذه المكابرة، ويرون فيها من عوامل تسريع التراجع! وتقول د. بروكس إن تراجع أميركا عائد لسببين: الأول، أن الدول التي كانت ضعيفة تزداد قوة. «فتعتبر أوروبا، على الرغم من مشاكلها الراهنة، قوة اقتصادية ودبلوماسية لا يمكن إنكارها، وتشكل الصين والبرازيل والهند قوى إقليمية بدأت تكسب نفوذاً عالمياً متزايداً. ونتيجة زيادة قوة الدول الأخرى، يتراجع النفوذ الأميركي نسبياً. الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بمكانة اقتصادية طاغية في وجه تنامي نفوذ أوروبا الغربية وشرق آسيا. وكان ريجان يدرك أن التراجع النسبي للنفوذ الأميركي هو أمر إيجابي، (إذا استطاع الأميركيون تحويل القوى الناشئة إلى حلفاء موثوقين، ستزدهر الولايات المتحدة إذا تمكنت من إحاطة نفسها بدول صديقة تتمتع بنفوذ كبير مثلها. سيحصل الأميركيون بفضلها على أسواق أكبر وسيتم تقاسم الأعباء بين الدول المختلفة. لا يمكن أن تحل الولايات المتحدة وحدها المشاكل العالمية». ومن الحقائق التي تنبئ في رأي البعض، بتدهور الولايات المتحدة الوشيك، تخلخل تركيبتها السكانية، وهجوم الآسيويين وسكان المكسيك وبقية أميركا اللاتينية عليها، ما يدفع المجتمع صوب تحول سكاني عميق، نتيجة للهجرة المشروعة وغير المشروعة. ولا تستطيع السلطات أن تمنع بعض وسائل الحصول على الجنسية الأميركية مهما بدت مثيرة للريبة. وقد سأل مراسل خلال مؤتمر صحفي للخارجية الأميركية في نهاية عام 2012: «ما هي سياسة الولايات المتحدة تجاه الشركات الصينية التي تحضر آلاف الصينيات الحوامل إلى كاليفورنيا لوضع أطفالهن هناك حتى يصبحوا مواطنين أميركيين تلقائياً»؟ فأجاب المتحدث بأن قانون الهجرة الأميركي لا يمنع ذلك. وقد أظهر تقرير أصدره مكتب الإحصاء الأميركي في واشنطن أن البيض في أميركا سيصبحون أقلية بعد خمسين عاماً. كما أظهر تصاعداً في أعداد المنحدرين من أصول لاتينية وآسيوية ما سيغير بشكل جذري ملامح الولايات المتحدة. وقال التقرير صراحة، إنه بحلول عام 2060، سيشكل غير البيض 57 في لمئة من سكان الولايات المتحدة، بينما تبلغ نسبتهم اليوم 37 في المئة من السكان، وأغلب هذا التغيير سببه استمرار زيادة مواليد الأقليات بمعدل أعلى من مواليد البيض، كما أكده تعداد عام 2010، وتظل المكسيك أكبر مصدر للهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، حيث يمثل المكسيكيون 60 في المئة من هؤلاء المهاجرين، نحو سبعة ملايين شخص. ويأتي في المركز الثاني المهاجرون بشكل غير شرعي من السلفادور، نحو نصف مليون شخص، ثم جواتيمالا وبيرو. وهناك نحو ثلاثة ملايين مهاجر غير قانوني في ولاية كاليفورنيا ونحو مليونين في تكساس ومليون في فلوريدا! ويرى «صمويل هنتنجتون» صاحب نظرية صراع الحضارات في مقال مطول بدورية Foreign Policy، النسخة العربية مارس-أبريل 2004،: إن التدفق المتواصل للمنحدرين من أصول أميركية لاتينية، يهدد بتقسيم الولايات المتحدة إلى شعبين وثقافتين ولغتين. خليل علي حيدر كاتب ومفكر - الكويت