لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد وسيلة عادية مما تتيحه تقنيات الاتصال الجديدة للتعارف في نطاق ضيق بين الأفراد الطبيعيين ومعارفهم في الحياة العادية، كما كان يفترض في البداية، حيث يدون المستخدمون يومياتهم، ويوثقون صورهم ومناسباتهم الاجتماعية، لتلقى "إعجابات" و"لايكات" معارفهم و"أصدقائهم"، أو في الحدود القصوى من كل من قد يطلع عليها من "العامة" و"أصدقاء الأصدقاء" الآخرين، وإنما تحولت هذه المواقع بسرعة إلى شكل جديد من أشكال الإعلام العمومي، دون أن تكون في الغالب جاهزة لأداء هذه المهمة، بحكم كون معظم الناشطين عليها هم من العامة، غير المؤهلين مهنياً، وأحياناً معرفياً، لكي يكونوا طرفاً جديراً بالانخراط في عملية ضخ إعلامي ذات مصداقية أو موثوقية مؤكدة. ومع هذا فقد قيل كلام كثير وسال حبر غزير خلال السنوات الأخيرة الماضية بشأن الدور المتعاظم الذي صارت مواقع التواصل الاجتماعي تلعبه في تغيير طبيعة وأصول المهنة الإعلامية ذاتها، وفي تحوير العلاقات بين أفراد المجتمع الإنساني، خاصة مع ظهور ما سمي المواطن الشبكي، والمواطن الصحفي، وسوى ذلك من كل ما من شأنه تغيير كثير من أصول العلاقات الاجتماعية، وقواعد لعبة الإعلام والإخبار، وتوسيع قاعدة إنتاجها وضخها وانتشارها على أوسع نطاق. ولكن كتاب المؤلفين الفرنسيين آلان لوفيفر وفرانسوا ليينار الجديد "المرآة المكسورة لمواقع التواصل الاجتماعي: تحليل نقدي للمساهمات الحقيقية لمواقع التواصل الاجتماعي"، الصادر في بداية شهر مايو الجاري، يقارب دور هذه المواقع، ومدى فاعليتها، وسيولة تطورها وانتشارها، بل مكانها من الإعراب، في الحياة والفضاء العمومي بشكل عام، وذلك من وجهة نظر مختلفة، تقرأ حال هذه المواقع اليوم سعياً لتشخيص سلبياتها وإيجابياتها، وصولاً إلى استشراف مستقبلها، وثم تقديم مساطر موجهة ونماذج إرشادية للتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي عموماً، بواقعية واعتدال وإيجابية. ويبدأ مؤلفا الكتاب أولاً من التأريخ لبدايات ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وآليات استخدامها وطرق عملها، (وكانا قد أصدرا في سنة 2005 كتاباً مرجعياً ورائداً عن "مواقع التواصل الاجتماعي") ثم يقدمان بعد ذلك شهادات مستخلصة من مقابلات مع بعض العارفين "المخضرمين" نسبياً بهذه المواقع، من المدونين المشهورين في فرنسا خاصة، الذين يسمون عادة في التداول الإعلامي بـ"المدونين المرجعيين" الذين يقدمون هنا معطيات عن تجاربهم الخاصة مع استخدام هذه المواقع، مع كل ما قد يرتبط بذلك من سلبيات أو إيجابيات، لينطلق الكاتبان بعد ذلك كله في استعراض مفصل لسلبيات مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر شيوعاً، بالاستناد إلى حقائق موثقة وأرقام مدققة وأشكال بيانية وغرافيكية توضيحية، تظهر اتجاهات وحجم ظاهرة الاستخدامات غير الإيجابية لها، بالنسب والأرقام. ولاشك أن في مقدمة سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي هذه ظاهرة الإدمان الشبكي، وتضييع الوقت، والاستغراق في علاقات اجتماعية زائفة تنتسج في عالم اقتراضي تخييلي، يشغل كثيرين عن علاقاتهم الاجتماعية، في العالم الواقعي، بحيث أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي، من هذه الناحية، وكأنها عالم بديل من عدم التواصل الاجتماعي، يجري في الحياة الافتراضية، ليشغل المفرطين في الانهماك في غوايته عن الانخراط الإيجابي في التواصل الاجتماعي الصحي الحقيقي مع المحيطين بهم في الحياة اليومية. هذا إضافة طبعاً إلى عيوب الإدمان الشبكي الأخرى الكثيرة ومن ضمنها التأثير سلباً على إنتاجية، وخصوصية، وحريات الأنا أو الغير، ضمن حلقة مفرغة، وغير آمنة، تتضرر بفعلها الخصوصية الفردية لكافة أطراف عملية التواصل. ويميّز المؤلفان بين دفتي كتابهما الصغير حجماً (120 صفحة)، الثري محتوىً، بين أشكال وآليات عمل مواقع التواصل نفسها، فيبرزان خصائص كل من الفيسبوك والتويتر، والقادم الجديد غوغل بلاس، وغيرها من مواقع وشبكات تواصل، تتيح أمام المستخدمين الشبكيين فرص انتشار وتواصل واسعة، وإن بتبعات سلبية متفاوتة من موقع إلى آخر، ومن مستخدم إلى آخر أيضاً. هذا إضافة طبعاً إلى ظاهرة عزوف بعض المستخدمين الأكثر مصداقية وقيمة في منشوراتهم عن بعض مواقع التواصل المفرطة في عموميتها وجماهيريتها، بل وأحياناً سوقيتها، ولاشك أن إقلاع ذلك النوع الرفيع من المستخدمين عن النشر في بعض مواقع التواصل، يفقدها قدر كبيراً من قيمتها المضافة، التواصلية والمعرفية، من الناحية الكيفية، حتى لو كانت نسب انتشارها في تصاعد من الناحية الكمية، نظراً إلى تعاظم أعداد المستخدمين، الذين قد يصلون إلى المليار بحسب ادعاءات إدارات بعض هذه المواقع. حسن ولد المختار الكتاب: المرآة المكسورة لمواقع التواصل الاجتماعي المؤلفان: آلان لوفيفر وفرانسوا ليينار الناشر: كريتسبيس تاريخ النشر: 2013