احتفلت إسرائيل في الأسبوع الماضي، وتحديداً في 15 مايو، بالذكرى الخامسة والستين لإقامة دولتها، حيث يفضل الإسرائيليون الإشارة إلى ذلك اليوم باعتباره تاريخ الاستقلال، وكأن دولتهم كانت واقعة تحت احتلال بلد أجنبي لتنتزع استقلالها في ذلك التاريخ المذكور. والحال أن 15 مايو 1948 يسجله التاريخ كيوم لانتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين التي كان قد اعتُرف باستقلالها مؤقتاً من قبل عصبة الأمم. ولذلك فإن إعلان قيام دولة إسرائيل في ذلك اليوم، شكل بالنسبة للفلسطينيين مأساة حقيقية تبعتها ممارسات رهيبة كالتهجير ومصادرة الأرض وخسارة الوطن والدولة، فضلاً عما رافق كل ذلك من مجازر، وظهور معضلة اللاجئين الفلسطينيين التي ما زال حلها متعذراً حتى هذا الوقت. وليس غريباً أن يطلق الفلسطينيون على ذلك اليوم المشؤوم يوم النكبة. وعلى مدار السنوات اللاحقة سعى الإسرائيليون إلى تغذية رواية خاصة بهم تقوم على التلفيق وأنصاف الحقائق لتبرير الهجرة الفلسطينية في عام 1948، حيث زعموا أن الفلسطينيين إنما غادروا منازلهم وهجروا أرضهم استجابة لدعوات القادة العرب بترك الأرض مؤقتاً والعودة إليها لاحقاً بعدما تكون القوات اليهودية قد سحقت، ويرى قادة الصهاينة أنه في حال ثبت هذا الزعم وتأكدت المطالب العربية بإخلاء الأرض، فإن إسرائيل ستكون في حل من مسألة اللاجئين ويحق لها منع عودتهم إلى أرضهم مرة أخرى، بل سيكون المجتمع الدولي أكثر تفهماً للرواية الإسرائيلية! والمؤسف أن هذا الطرح الواهي من الدعاية المغرضة لقي دعماً في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية، وإن أيضاً تعرض لضربة قوية على يد الكاتب الإيرلندي، إيرسكين تشيلدرز في الخمسينيات. فقد كتب في صحيفة "ذي سبكتاتر" كاشفاً المزاعم الإسرائيلية: "لم يصدر أمر واحد، أو مناشدة، أو تلميح يفيد بإخلاء فلسطين، ولم نسمع بذلك من أي محطة إذاعية عربية، سواء داخل فلسطين، أو خارجها"، بل على العكس، يقول الكاتب الإيرلندي: "حتى المحطات اليهودية التي تبث بالعبرية أشارت إلى أوامر عربية ببقاء الفلسطينيين في مكانهم، وهو نفس ما نقلته الصحف العبرية في فلسطين حينها". ولا يختلف الأمر أيضاً عند الكاتب الفلسطيني وليد خالدي الذي فحص هو الآخر الادعاءات الإسرائيلية وتوصل إلى النتيجة نفسها. ولكن الدحض الأهم للمزاعم الإسرائيلية جاء على يد مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين المعروفين باسم "المؤرخين الجدد"، من أمثال "بيني موريس" و"آفي ساليم" وغيرهم ممن اطلعوا قبل ثلاثين سنة خلت على وثائق الحكومة وأرشيف الجيش الإسرائيلي وتوصلوا إلى نتائج مشابهة حول مسؤولية قادة إسرائيل عن طرد الفلسطينيين وظهور مشكلة اللاجئين. وفي هذا السياق يقول "بيني موريس"، موضحاً المسؤولية الإسرائيلية: "دعونا نؤكد أن مشكلة اللاجئين تسببت فيها الهجمات التي شنتها القوات اليهودية على القرى والبلدات العربية، كما نتجت عن خوف الأهالي من هذه الهجمات التي فاقمت عمليات الطرد والفظائع، والقرار الإسرائيلي الحاسم في يونيو 1948 بمنع عودة اللاجئين". وفي الأسبوع الماضي كتب "شاي هازكاني" بمناسبة الذكرى الـ 65 لقيام دولة إسرائيل مقالة مطولة يشرح فيها الدور المهم الذي اضطلع به رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، ديفيد بن جوريون، في بث الدعاية التي تتنصل بها إسرائيل من مسؤوليتها في ظهور مشكلة اللاجئين، حيث يقول إنه بعد الاطلاع على الوثائق التاريخية تبين أن بن جوريون كان يعرف ما يجري بشأن طرد الفلسطينيين، بل وسمح بذلك عندما كان يستطيع. وتحت قيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها طُلب إلى الأكاديميين اليهود المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط العثور على أية أدلة تدعم الرواية الإسرائيلية، ومن بين هؤلاء كان "روني جابي" الذي هاجر من العراق، حيث جُند للعثور على تلك الأدلة، واعتمد على ما كانت تبثه المحطات الإذاعية العربية كلها في تلك المرحلة وخطابات القادة العرب ليؤكد "جابي" أنه لم يجد ما يؤيد الرواية الإسرائيلية من أن الفلسطينيين تركوا منازلهم بإرادتهم الخاصة، قائلاً: "لم يشر أحد من القادة العرب على الفلسطينيين بالهرب". ولكن هذا الصراع على الضمير الإسرائيلي الذي انخرط فيه قادة الصهيونية لمنع المحاسبة في الداخل والحيلولة دون تعاطف المجتمع الدولي مع الفلسطينيين والمطالبة بإرجاع حقوقهم دخل مرحلة حاسمة في السنوات الماضية، عندما ظهرت المراجعات التاريخية التي أجراها مؤرخون إسرائيليون ليكشفوا زيف الادعاءات الصهيونية، فمسؤولية الصهاينة في طرد الفلسطينيين من ديارهم وخلق مشكلة اللاجئين تم توثيقها ليس فقط من مؤرخين مستقلين، بل أيضاً من قبل موظفين في الحكومة الإسرائيلية، ثم جاء القانون الدولي لينص صراحة على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم كما جسده قرار الجمعية العام للأمم المتحدة 194 الذي يقول "بعد مراجعة الأمم المتحدة للوضع في فلسطين.. تقرر السماح بعودة اللاجئين الراغبين في ذلك... وأن يحصلوا على التعويضات عن ممتلكاتهم بالنسبة لمن لم يرد الرجوع"، وهذا القرار ترسخ أكثر بآخر يحمل رقم 3236 الذي يؤكد "حق الفلسطينيين الثابت للعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أجبروا على تركها" لينكشف بذلك زيف التضليل الإسرائيلي، ومحاولات إنكار حق عودة اللاجئين إلى فلسطين.