في عام 1916، في ظل القتل والدمار اللذين واكبا الحرب العالمية الأولى، كتب فلاديمير إيليتش لينين كتابه الهام «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، الذي ضمّنه تحليلا للفترة التاريخية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، حيث قامت الدول المنتصرة في تلك الحرب باستعمار العديد من بلدان ما سيعرف لاحقاً باسم «العالم الثالث»، لتتقاسم ثرواتها وأسواقها. ونحن اليوم، وفي نطاق الحديث عن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، نعيد صياغة ما قاله لينين بتصرف، فنقول: «الصمود الفلسطيني هو أعلى مراحل الكفاح». وبشكل مباشر، نسأل: كيف، ولماذا؟! ونجيب: معروف أنه، سواء من الناحية التاريخية والوضع الراهن من جهة، أو من ناحية الأدبيات السياسية والممارسات العاكسة للاستراتيجية الصهيونية من جهة ثانية، يتجسد «الهدف الأسمى» للصهيونية، ومن ورائها كل الأحزاب السياسية الإسرائيلية، في الحفاظ على وجود دولة إسرائيل «كوطن قومي آمن (للشعب اليهودي) في أرض إسرائيل»، وذلك على أساس مبدأ قوامه هدفان مركزيان هما: «أرض أكثر» و«عرب أقل»! وهذا المبدأ ببساطة هو الهدف «الأسمى» لإسرائيل، وذلك عبر اتجاهين، أولهما يتم من خلال تطبيق السياسة الإحلالية الاستعمارية الاستيطانية في السيطرة على الأرض، سواء عبر (أ) المستعمرات (المستوطنات) التي تقام على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 مثلما حدث مع معظم الأراضي المحتلة عام 1948، أو (ب) عبر رزمة مشاريع تستهدف من تبقى من الشعب والأرض في فلسطين عام 48. وثانيهما يركز على طرد الفلسطينيين، سواء كما حدث في نكبة عام 1948 أو نكسة عام 1967 عبر «ترانسفير» إرهابي صريح، أو عبر ما بات يسمى اليوم «ترانسفير ناعم» من خلال سن قوانين عنصرية وفاشية صريحة هدفها إجبار الفلسطينيين على مغادرة بلادهم. وبالطبع، هذا كله من أجل استقطاب «يهود العالم» إلى فلسطين التاريخية التي يسمونها «أرض إسرائيل»، باعتبارها «أرض (الشعب اليهودي)»، مع متابعة المساعي الصهيونية لجعل شق «أرض أكثر» يصل إلى 100 في المئة، وجعل شق «عرب أقل» يصل إلى صفر في المئة. منذ أن استكملت إسرائيل تهجير معظم الفلسطينيين من ديارهم في عام 1948، تعاملت مع من بقي منهم وفق قوانين عنصرية «فريدة»، وذلك بهدف «إعادة تشكيل» إسرائيل ديموغرافياً ونزع الصفة العربية الفلسطينية عنها. ومن أبرز هذه الممارسات رفض إسرائيل إعادة توطين المهجرين في القرى الفلسطينية المدمرة تحت حجج الأمن والاستعمار (الاستيطان). وما زالت الدولة الصهيونية تتمسك جوهرياً وتمارس فعلياً (ولو غالباً بهدوء) سياسة الترحيل (الترانسفير) بعد أن تبين، بحسب «دائرة الإحصاء» الإسرائيلية، أن عدد الفلسطينيين مرشح لتجاوز عدد اليهود في «فلسطين التاريخية»، بحيث يصبح، مع منتصف القرن، في حدود 11?9 مليون عربي فلسطيني مقابل 10?6 مليون يهودي. وحديثاً جداً، أعلن جهاز الإحصاء الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين واليهود في فلسطين التاريخية، سيتساوى مع نهاية العام القادم (2014)، وأن عدد فلسطينيي 48 حالياً حوالي 4?1 مليون فلسطيني، مشيراً إلى أن نسبة السكان اليهود ستصبح حوالي 48?2 في المئة من السكان، وذلك بحلول نهاية عام 2020 حيث سيصل عددهم إلى نحو 6?2 مليون يهودي مقابل 7?2 مليون فلسطيني. ومن المؤكد أن الفلسطينيين باتوا يدركون أن بقاءهم على أرضهم وأرض أجدادهم يواجه بقوة إسرائيلية هائلة ومصممة تسعى لطردهم، وأنه دون تنظيم صفوفهم وتحديد وتجديد أشكال نضالهم، لن ينجحوا بالصمود في وجه الفاشية والعنصرية الإسرائيلية. وفي مثل هذه الحالة، يصبح الصمود هو أعلى مراحل الكفاح. وفي هذا السياق، أثبت الفلسطيني قدرته على رفض الواقع المظلم وعلى مقاومة الاحتلال بالطرق السلمية. فما زالت مسيرات يوم الجمعة في عديد قرى الضفة الغربية التي تواجه خطر جدار الفصل العنصري (بلعين، نعلين، المعصرة، الشيخ جراح... وغيرها) متواصلة على مدار العام، يشاركهم في كفاحهم المسالم متضامنون من مختلف دول العالم وناشطون حقوقيون إسرائيليون، ضمن حملة تعبوية فلسطينية شعبية، هدفها الوصول إلى دعم المجموعات الشعبية والمنظمات الدولية المؤيدة للشعب الفلسطيني، والتي تطلق المظاهرات والفعاليات في مجتمعاتها بهدف الضغط على حكوماتها لإدانة الممارسات الإسرائيلية بما فيها «الجدار»، مطالبةً إسرائيل بوقفه وهدم ما بُني منه. وقد تعززت الرؤية المستقبلية للمقاومة الشعبية عبر مشاركة ممثلي القوى الوطنية، حتى اكتسب هذا النوع من النضال السلمي أنصاراً كثُراً في أنحاء العالم، استطاعوا حشد دعم دولي في مواجهة العنصرية الإسرائيلية، وأماطوا اللثام عن وجهها القبيح من خلال جهود متنامية في الطليعة منها جهود «حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها» (BDS). وربما من أحدث وأشهر الأمثلة على المقاومة المستحدثة مثال قرية باب الشمس، تلك القرية الفلسطينية التي تم إنشاؤها في 11/1/2013 لمواجهة الاستيطان في القدس المحتلة، حين أقام حوالي 250 شاباً وشابة من مختلف الأراضي الفلسطينية، إضافة لمتضامنين أجانب، الخيام كبداية لإنشاء القرية في شرق القدس دفاعاً عما يسمى بأراضي منطقة E1. وانطلاقاً من مبادئ عموم الشعب الفلسطيني (شعب واحد رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بين أبنائه)، نقول إن الجماهير الشعبية المتسلحة بالإرادة والتصميم قادرة على انتزاع أمانيها، وتنظيم صفوفها واتخاذ قرارها بالمقاومة السلمية دون شعارات وخطب رنانة، بل عمل متواصل على الأرض، مدعوماً بإرادة صلبة برهنت على أن النضال الشعبي المستند إلى الجماهير ووحدتها ودعم المتضامنين الأجانب وحتى الإسرائيليين أنفسهم من القوى غير المتصهينة، قادر على إلحاق الهزيمة بالمحتل الصهيوني، مهما امتلك من قوة. ومن رحم كل ما سبق، نسأل: أين هي مؤسسات المجتمع المدني القادرة على الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني؟ كذلك، من أجل تعظيم نقاط القوة وربح المعركة، نسأل: أين نحن من كل ذلك؟! يقول الكاتب الأميركي إرنست هيمنجواي: «الرجل قد يتم تكسيره لكنه لن يهزم إن بقي صامداً، فهو في النهاية سينتصر». كلمة السر، إذن، هي «الصمود». لذا، ومن أجل ربح المعركة الدائرة، يجب دعم الصمود الشعبي الوطني الفلسطيني بحيث يصبح جهداً موحداً شاملا لا يقتصر على قرى وبلدات دون غيرها في مناسبات بعينها، وعلى نحو يستهدف تجسيد مقاومة جماهيرية متعاظمة تنتشر وتمتد في مدن الأراضي المحتلة، مع الحفاظ على السكان، بل تزايدهم كما هو متحقق حالياً. فلا أنجع من درب الانتفاض والصمود الفلسطيني السلمي الحضاري المتجدد... حتى تقرير المصير.