تعيش إمدادات المياه العالمية اليوم على وقع ضغوط هائلة تمارسها قوانين العرض والطلب المختلة التي تزيد في تفاقمها ظاهرة التغير المناخي، وتنامي سكان العالم، فضلا عن تصاعد الطبقة الوسطى في عدد من الدول، ما يعني استهلاكاً أكبر للموارد واستنزافاً أشد للمياه. وفي مناطق من العالم، مثل باكستان، شكلت معضلة الفيضانات الكبرى، والتي غالباً ما تعقب عواصف عاتية، مشكلةً أساسية بسبب اجتياحها للمناطق السكنية والأراضي الزراعية وتدميرها للمحصول. والحقيقة أنه ما كان لهذه الفيضانات أن تحدث لو تمت المحافظة على البيئة الطبيعية التي تحول دونها والمتمثلة في الغابات والأراضي الرملية التي تعلب دور الحاجز الطبيعي المانع لتمدد مياه الأنهار بعد التساقطات الغزيرة. إلا أنه مع مرور السنوات استُنزفت هذه الحواجز الطبيعية، بسبب التمدد الزراعي والإفراط في قطع الأشجار، ما جعل الأراضي المحيطة بالأنهار جرداء ومعرضة لفيضانات مدمرة. أما في مناطق أخرى، مثل جنوب غرب الولايات المتحدة وشمال الصين والهند وبعض الأجزاء من الشرق الأوسط، فهي تعاني من مشكلة أخرى تتمثل في الاستنزاف المفرط للطبقات المائية الجوفية التي كانت لسنوات طويلة المصدر الرئيسي لتوفير المياه في تلك البلدان، من خلال حفر آبار عميقة تزود السكان بالمياه العذبة، وهي مع الأسف آخذة في النضوب بعدما تشكلت على مدار آلاف السنين وظلت محفوظة تحت الأرض تستغلها أجيال متلاحقة، والسبب استخدام المياه الجوفية ليس فقط لإرواء عطش الناس، بل أيضاً لسقي الأرض والزراعة. وحتى لو عادت التساقطات إلى غزارتها السابقة، لن تفيد كثيراً في تعبئة الطبقات الجوفية بالماء، لتبقى بعض المناطق والمدن معرضة لخطر العطش مثل العاصمة اليمنية صنعاء، والتي ستعاني فعلياً من عطش حقيقي ما لم تُتخذ إجراءات سريعة للحد من الاستهلاك المفرط للمياه. وفي جنوب غرب الولايات المتحدة وشمال الصين تنافس المياه المخصصة للشرب احتياجات الطاقة، لاسيما التقنيات الجديدة لاستخراج النفط والغاز الطبيعي المعروفة باسم «التصديع الهيدرولي»، والتي تعتمد على الماء لشق الصخور وتسهيل عمليات التنقيب والوصول إلى مصادر الطاقة. وإذا كانت هذه هي الجهات التي تزاحم احتياطات المياه في بعض المناطق، فهناك أيضاً الاختلال في الإمدادات التي لا تقل خطورة عن سواها، فقد بات معروفاً التأثير السلبي على المياه الذي يمارسه ذوبان الكتل الجليدية الكبرى في جبال الهملايا وجرينلاند وأميركا الجنوبية والقطب الجنوبي المتجمد... والتي لا يوازيها في تدمير احتياطات المياه وشحها سوى تراجع معدل التساقطات السنوية في مناطق وسط أفريقيا وجبال الروكي الأميركية، الأمر الذي يؤثر تأثيراً مباشراً على منسوب المياه في نهري النيل وكولورادو. وليس خافياً الدور الحيوي لهذين النهرين في ضمان الاستمرار الاقتصادي والحياتي لبلدان في أفريقيا ومناطق من أميركا. وإذا أضفنا إلى ذلك التغيرات المناخية الناتجة عن الاحتباس الحراري، والتي تنعكس سلباً على وفرة المياه وارتفاع مستوى البحر الذي يغرق المناطق الساحلية والأراضي الزراعية، يمكن استخلاص الخطورة التي تواجهها إمدادات المياه في العالم ومعها مستقبل البشرية على سطح هذا الكوكب. وكما تشير عدد من الدراسات، فهناك علاقة تفاعلية بين حالات الجفاف الحادة التي ضربت شمال أفريقيا وسوريا وما نتج عنها من هجرة من الأرياف نحو المدن، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وبين الاستياء السياسي والغضب الشعبي الذي قاد إلى الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي شهدها الشرق الأوسط فيما يسمى «الربيع العربي». ومع أنه من السذاجة تحميل المطالب السياسية التي رفعتها شعوب المنطقة خلال السنتين الماضيتين على التغيرات المناخية وارتفاع أسعار المواد الغذائية باعتبارها المسؤولة عن ذلك، إلا أنه لا يمكن أيضاً إنكار العلاقة، فالتاريخ مليء بدروس عن ثورات اندلعت بسبب الجوع والضغوط التي عاشتها الطبقات الحاكمة لإرضاء الشعوب، الأمر الذي دفع الإمبراطور الروماني «نيرون» إلى توفير «الخبز والسرك» في عبارته الشهيرة لإلهاء الشعب عن الثورة. والمشكلة ليس فيما يختزنه كوكب الأرض من مياه، إذ تؤكد الدراسات العلمية وجود مخزون هائل منها، لكن المعضلة في الوصول إلى تلك المخزونات، وهي عملية صعبة ومعقدة للغاية، لتبقى المياه العذبة والقريبة من الإنسان محصورة في عدد محدود من الدول والمناطق. فالصين وكندا وتركيا هي بلدان عملاقة من حيث إمكاناتها المائية، لكن الصين تحتاج إلى كل مياهها لمواكبة نموها الاقتصادي وتزويدها بالطاقة، فيما تستطيع كندا تصدير جزء من مياهها إلى الولايات المتحدة، وبالمثل يمكن لتركيا مد العراق وسوريا بكميات مهمة من المياه، إلا أنه وفيما عدا هذه الحالات التي تستطيع الدول تصدير فائضها من المياه إلى بلدان قريبة وعلى حدودها، فإن عملية تزويد مناطق بعيدة تنطوي على كلفة اقتصادية كبيرة، ليظل الأمل على المدى البعيد في تحقيق اختراقات علمية ومقبولة من الناحية المادية، مثل تطوير تكنولوجيا الاندماج النووي التي بإمكانها تثوير عملية الحصول على الماء. فمعروف أن التقنية النووية القائمة على الاندماج بدل الانشطار هي أقل كلفة ويمكن استخدامها بكثافة في محطات تحلية المياه، ومن ثم خفض كلفة إنشائها وإتاحتها لجميع الدول حتى الفقيرة منها. لكن أكثر التقديرات تفاؤلا تقول إنه ما زال أمامنا وقت طويل قبل التمكن من هذه التقنية وإتقانها وأن الأمر قد يستغرق أكثر من أربعين سنة على الأقل، وهي فترة لا يمكن تحملها في حال ظلت الموارد المائية على ندرتها وتناقصت مخزوناتها في العالم، لأن ذلك سيعني حدوث أزمات دولية واندلاع صراعات سيكون الماء محورها الرئيس.