أصبح «منتدى الإعلام العربي» الذي يعقد في دبي مناسبة إعلامية عربية لمناقشة هموم الإعلام العربي. وخصصت في فعاليات الدورة الثانية عشرة منه والتي كانت الأسبوع الماضي، جلسة عن «الإعلام الساخر وبرامج التوك شو» في الدول العربية. للإعلام الساخر ثقافة تعبيرية خاصة به، فهو كما نعرفه يقاوم كثيراً من الأخطاء في المجتمع ويسهم في تصحيح الاعوجاجات دون أن يكون مباشراً، وهذه نقطة مهمة جداً في هذا النوع من الإعلام. كما أن له صوراً تعبيرية مختلفة، فإما أن يكون إعلاماً مكتوباً أو مرئياً أو على شاكلة رسم كاريكاتوري. الكثيرون يعتبرون أن وجود «إعلام ساخر» هو دليل على نشاط وحيوية المجتمع. الحضور الذي سجلته هذه الجلسة مقارنة بالجلسات الأخرى؛ كما قرأت في تفاصيل تغطيات الندوة، يؤكد نقطتين: أولاهما أن الإعلام الساخر بات ظاهرة إعلامية عربية جديدة، والثانية أن هناك «تعطشاً» لدى الرأي العام العربي لهذا النوع من الإعلام. الميزة في الإعلام الساخر أنه يتناول الشأن العام، باعتباره مجال اهتمام الناس، وبالتالي تجد أن هناك إقبالاًً على المتابعة للبرامج ورغبة على القراءة. والدليل أن برنامج «البرنامج» يسجل أكثر نسبة مشاهدة في كل وسائل الإعلام. ضمت جلسة «منتدى دبي» نماذج من الإعلام العربي الساخر، لكن الأبرز كان «باسم يوسف» الذي بدأ يطلق عليه «ظاهرة الإعلام العربي الساخر»، والذي ربما خدمه الإعلام المرئي ووسائل التواصل الاجتماعي، فكانا السبب في الانتشار الواسع لبرنامجه. لو قمنا بمسح في «الإنترنت» لوجدنا أن هناك العديد من المواقع، ومنها «اليوتيوب»، تتبع السخرية الإعلامية طريقاً لنقد سلوكيات مجتمعية معينة، وهم أيضاً لهم جمهورهم من الأعمار المختلفة. وهو ما ينبغي الالتفات إليه. كما انتشرت، مؤخراً، طرق مختلفة في التعبير عن رفض بعض الشباب لسياسات معينة في الدول العربية التي أصابها «الربيع العربي» وكان المشترك فيها «النقد بالسخرية». المشتغلون في الإعلام يدركون أن هذا النوع من الإعلام هو الأصعب بين كل الأنواع الأخرى الجادة والترفيهية. وإذا استطاع إعلامي أن يأتي بمادة إعلامية ساخرة واحدة فإنه يصعب عليه الاستمرار فيه، بل إن مكانة الناقد الساخر «المحترم» في المجتمع قوية. ولذا، فمن الطبيعي أن تجد أن هذا النوع من الإعلام يكاد يكون نادراً. ربما كانت النكتة أو السخرية من أدوات المصريين في إجبار الرئيس السابق على التنازل عن السلطة، حتى إنها اعتبرت في تلك اللحظة «السمة المصرية»، وتمت تغطيتها في الإعلام العالمي، وتم استنساخ الفكرة في الثورات التي تلت الثورة المصرية. عندما ضاق الوضع بالتونسيين خرجت مجموعة من الشباب بمقطع فيديو راقص يعبر عن رفضهم للسياسات الجديدة في بلادهم. وحتى في السعودية انتشرت مثل هذه المقاطع تنتقد سلوكيات في المجتمع، وهذه كلها مؤشرات على أن هذا النوع من الإعلام قادم! قرأت منذ أيام أن الصينيين بدأوا يهتمون بمتابعة البرنامج الساخر الأميركي الذي يقدمه جون استيوارت، وهو دليل على الاهتمام بالإعلام الساخر، بل هناك فكرة لاستنساخه في الصين. أذكر أنه قبل عام 2005 كانت جريدة «الاتحاد» الإماراتية تنشر عموداً يومياً ساخراً بتوقيع «بوعوض»، ومع أنه كان ناقداً لاذعاً للكثير من السياسات والمواقف المجتمعية، فإنه كان يرسم الابتسامة على وجوه الناس ويدفعهم إلى القراءة، بل إنه كان يخيف المسؤولين في الدوائر المحلية؛ فكل واحد كان يعتقد أنه المقصود بما يكتبه «بو عوض» أو بتلميحاته، حتى إن انقطاعه عن الكتابة كان مناسبة مريحة للكثيرين، لاسيما «المتكاسلين». وكان في الصحيفة نفسها مقال سياسي أسبوعي ساخر بتوقيع «طارق سيف» يختلف عن العمود المحلي من حيث تناوله الشأن العربي، وكان كاتب العمود يسعى من خلاله لتصحيح الوضع السياسي العربي ناقلاً هموم المواطنين إلى المسؤولين عنه. للإعلام الساخر في أي مكان في العالم وظيفتين اثنيتن: الأولى أنه يهدئ قلق الناس تجاه حياتهم المعيشية اليومية، ولذا تجد البرامج التي تلامس اهتماماتهم هي الأكثر مشاهدة، كما يرسم هذا الإعلام الابتسامة على وجوههم، بل إن أنظمة ديكتاتورية استخدمته لتخفيف الشحنات السلبية لدى الجماهير ضد الحكومة؛ وأفضل مثال على ذلك المسلسل السوري «مرايا»، مع أن الوضع المجتمعي بقي كما هو دون تغيير. الوظيفة الثانية أنه يسهم بشكل كبير في تعديل الكثير من السلوكيات والسياسات المؤسساتية وتعديل اعوجاجات معينة بطريقة غير مباشرة، وهو أمر مهم. لذا نجد المجتمعات الغربية تستخدمه وتشجعه مع وجود الخطوط التي يجب ألا يتجاوزها. كما أنه يمكن الاستفادة من طرحه غير المباشر في التأثير في سلوكيات الرأي العام إذا استخدم بشكل مناسب. لا أحد يمكن أن يجادل في ضرورة احترام خصوصيات المجتمع، بل إنني متأكد بأن المجتمع كفيل بأن يقضي على من يتجاوز عاداته وتقاليده؛ لأن الرأي العام بات أكثر وعياً وأكثر قدرة على تقييم ما يناسبه. وكذلك لا أحد يختلف حول أهمية احترام الرموز السياسية في الدول باعتبارها جزءاً من احترام الدولة، وهنا تأتي شطارة الإعلامي الساخر في فك الارتباط بين نقد السياسات واحترام المشاهد أو القارئ. ملكة بريطانيا كرمت الممثل البريطاني الشهير روان اتكينسون «مستر بن»، ومنحته لقب «سير»؛ لأنه، كما يقال، يعمل على نقد مواقف مجتمعية بطريقة ساخرة تضحك الناس، وبالتأكيد فهو يضحك الملكة أيضاً، بل إنه أثناء الاحتفالات العالمية يقدم «مستر بن» على أنه أحد المعالم البريطانية. أجد أنه من المناسب أن تعمل الحكومات العربية على إيجاد إطار قانوني لتنظيم هذا الإعلام الذي بات ينتشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أكثر، حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة، وبالتالي يبدأ العمل «بأثر رجعي»، بل سيكون من المناسب جداً لو تم تشجيع مثل هذه البرامج لتكون في القنوات الرسمية، كونها باتت حاجة مجتمعية والجميع يتابعها؛ هكذا تقول الإحصائيات. المهم ألا نترك هذا الإعلام يتراجع عن تأدية دوره المجتمعي، لأنه مهم. بل علينا أن نعمل على إعادته ليكون مشغولاً بهموم الناس والوطن، وألا نترك المجال للتهكم والإساءة وتصفية الحسابات.