في التاريخ الإسلامي تطورت تقاليد عريقة في طرائق تناول علماء الدين للقضايا والشؤون المُستجدة التي تواجه مجتمعاتهم. تتناول هذه السطور اثنين من تلك التقاليد التي تم القضاء عليها في حقبة التدين المظهري والتلفزيوني التي نشهدها في الوقت الراهن. التقليد الأول هو دراسة الشأن المطروح على الفتوى بأكبر قدر من التأني والحذر والدقة في إصدار الرأي فيه. وهنا نعرف كيف أن العلماء الحقيقيين كانوا ينظرون في الأمر المعروض عليهم ويقيسونه زمناً ومكاناً وظرفاً وشخصاً، ويتأملون في انعكاساته وتأثيراته ثم يصدرون رأيهم. وما يصدر من فتوى في شأن من الشؤون يطلبها شخص ما في مكان ما في زمان ما في ظل ظروف محددة قد يختلف تماماً حول ذات الشأن إن طلبها شخص آخر، أو في مكان آخر، أو في زمان آخر، أو في ظل ظروف مختلفة. ومُسجل في أدبيات الفتيا أن الشافعي كان قد أفتى في العراق بشكل مختلف عما أفتاه في الشام وحول ذات الشؤون، لأن السياق والظرف يختلفان. ومقابل ذلك التأني والحذر وموضعة الفتوى في سياق الزمان والمكان والظرف والسائل ماذا نرى هذه الأيام؟ الذي نراه جحافل من أرباع العلماء يحتلون شاشات القنوات الدينية جاهزين «على الهواء» لإطلاق أية فتوى حول أي شأن كان، وفي أي مكان وزمان. كيف يتأتى لحضرة «المفتي التلفزيوني» هذا العلم الديني اللامحدود الذي يؤهله للرد الفوري والمباشر على أي سؤال من أي شخص ويكون ضميره الديني مرتاحاً؟ كان يُؤتي للعالم الحقيقي بالقضية في إطار التقاليد العريقة للفتوى فيطلب الوقت لينظر فيها ويعيد السائل من حيث أتى، فيعكف على المسألة لدراستها وتقليب وجوهها. ومفتو اليوم لا يحتاجون «للنظر في المسألة» فعبقرية علمهم الديني تؤهلهم لإطلاق الرأي يميناً وشمالاً وعلى الفور حول أكثر القضايا تعقيداً. ومشاهدة أي برنامج من برامج «فتاوى على الهواء» تثير الغثيان بسبب جراءة بعض المفتين التلفزيونيين الذين داسوا تحت أقدامهم كل ما له علاقة بتقاليد الفتوى التاريخية من الدراسة والتأني والحذر. وتأتي أسئلة لا تستثني شيئاً من السؤال عما إن كانت «العولمة حراماً أم حلالاً»، أو «هل امتلاك السلاح النووي حرام أم حلال»، إلى «حلية أو حرمة تويتر وفيسبوك»، إلى «حكم شراء تذاكر اليوم الواحد في قطارات المترو في أوروبا»، وصولاً إلى الحكم بإسلام أو كفر طوائف وجماعات بأكملها، وإلى كل شيء عملياً! ومع ذلك لا يرف طرف لبعض المفتين التلفزيونيين ونراهم وبكل ثقة تلفزيونية استعراضية يطلقون فتاواهم من على «شاشات مصانع الفتوى» ودون أي تردد. وهذا النوع من «الفتاوى التلفزيونية» كارثة حقيقية تواجه مجتمعاتنا اليوم، لأنها خليط من تنافس الاستهلاك الديني بين القنوات الفضائية ورأس المال الباحث عن دعايات أكثر في حال تحقيق نسبة مشاهدة أعلى لبرنامج هذا المفتي أو ذاك. وقد يتسلل إلى وعي المفتي التلفزيوني الهوس التنافسي لتحقيق الظفر والتفوق على غيره من المفتين على الشاشات الأخرى عن طريق التظاهر بامتلاك علم أوسع وقدرة أكبر على الفتوى إزاء كل شيء. وبهذه الكيفية أصبحت «مصانع الفتوى» جزءاً لا يتجزأ من رأسملة الدين وتحويله إلى وسيلة للربح التلفزيوني السريع. والتقليد التاريخي الثاني الذي تم طحنه في ماكينات الاستهلاك الديني التلفزيوني هو قول «لا أدري» إن أُشكلت القضية على العالم وحار إزاءها جواباً. ومثل هذا التقليد سمة رفيعة عند علماء الدين الحقيقيين الذين كانوا على رغم علمهم الغزير يتواضعون أمام هذا الشأن الخلافي أو المُبهم أو ذاك ولا يصدرون فتوى بشأنه. وكان ذات العالم الذي يطلب وقتاً لينظر في قضية معقدة لا يتوانى في الاعتراف بعدم قدرته على إعطاء رأي جازم فيها ويقول «لا أدري». وهذا التقليد العظيم الذي يعكس التواضع والقدرة في ذات الوقت، أين هو من كثير من مفتي هذه الأيام وعلمائه الذين صار اشتغالهم بالفتوى والدين أقرب إلى «التشبيح» منه إلى أي شيء آخر. لا يدرك «شبيحة المفتين» اليوم أن قاعدة «لا أدري» هي عملياً ما حفظ التعايش التاريخي وعلى مدار قرون طويلة في المنطقة والعالم الإسلامي عموماً، ولأنها مرتبطة عضوياً بمنهج متأسس على «لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم». والمعنى العملي والتطبيقي لتوجيه النص القرآني هذا هو أن كثيراً من أمور الحياة والشؤون المُستجدة تقع في مناطق رمادية وبعيداً عن أن تُحسم بالفتوى وبـ«الحلال والحرام»، ومن الأفضل أن تبقى هناك وكذلك. وهذه المناطق الرمادية كلما بقيت على اتساعها كلما انتعشت المجتمعات وازدهرت، ويشهد التاريخ الإسلامي على ذلك في مراحل تقدم المسلمين وعلوهم. وفي المناطق الرمادية تشتغل العلوم وتتقدم الثقافة ويتم هضم كل ما هو مُستجد وتطويعه عبر عبقريات الاجتماع الإنساني لخدمة الناس من دون إعاقات. وفي المناطق الرمادية تعيش جماعات المجتمع المختلفة بأنماط تدينها المُتباينة وسلوكياتها المختلفة، وهو أيضاً ما شهدت به المراحل التاريخية المختلفة. وفي المقابل عندما تتآكل المناطق الرمادية ويصبح هوس الأفراد ورجال الدين (الشبيحة) مُكرساً على الخروج على منهج «لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم»، ويتحول كل الجهد المصطنع لاختلاق قضايا من لا شيء، ندخل في زمن انحطاط وتقهقر. وتبدأ ماكينة الفتوى والتحريم بالقضم التدريجي والمتواصل من المناطق الرمادية وتحاصرها في غياب كلي لقاعدة «لا أدري» التي هي القاعدة الطبيعية لعدد هائل من المسائل الطارئة والمعقدة والمُبهمة، ولكن على رغم تعقيدها وإبهامها إلا أن ذلك لا يمنع مفتي الاستعراض التلفزيوني من مواجهتها وإصدار الفتوى (التحريمية) بشأنها. ونحن الآن نعيش هذه الحالة المريعة من محاصرة المربع الرمادي الوسطي للاجتماع العربي والإسلامي من قبل بلدوزرات الفتوى التحريمية التي تهدم أرضيات ذلك المربع الذي إن انتهى انتهينا معه.