برز خلال الأسبوعين الماضيين حدثان مهمان، أحدهما زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى موسكو، واتفاقه مع وزير الخارجية الروسي على عقد مؤتمر دولي حول سوريا تشارك فيه المعارضة وأعضاء من حكومة الأسد. والآخر التفجير الضخم الذي هزّ مدينة الريحانية من قِبل جماعة تركية منشقة موالية للحكومة السورية، وخلّف خمسين ضحية من المدنيين الأتراك، ومائة من الجرحى. وقد حظيَ التقارب الأميركي- الروسي في المسألة السورية بانتقاد كبير سواءً في الصحافة الأوروبية، أو الأميركية. فقد انتقد الباحث الأميركي «خوان كول» التنازلات الرئيسية التي قدّمها وزير الخارجية الأميركي للرئيس بوتين. ونقل مقالة نشرها الكاتب الإيطالي «جيان ميكاليسين» في جريدة «الجورنال» المشهورة، انتقد فيها مثل هذا التراجع في سياسات أوباما تجاه المسألة السورية، واعتبره شكلاً من أشكال التخاذل الدبلوماسي. وتساءل كثيرون عن أسباب هذا التراجع الأميركي، وعزاه البعض إلى النجاحات التي حققها جيش الأسد في معاركه لاسترجاع المناطق التي تربط بين دمشق وكل من حمص وحلب، وكذلك محاولته لمنع وصول أسلحة من الجانب الأردني عبر حوران إلى مناطق ريف دمشق الجنوبية. والحقيقة أنّ الدعم الحقيقي الذي يتلقاه الأسد من إيران و«حزب الله»، وغير المنقطع، يرينا أن الضربات الجوية التي تقوم بها قوات الأسد، وعمليات التطهير العرقي والطائفي التي يقوم به جيشه ضد المدن السورية، والمجازر الضخمة في بانياس وغيرها من المدن والقرى السورية، والصمت المطبق تجاه هذه العمليات الإجرامية، هي التي دفعت بقوات الأسد أن تستخدم كل ما لديها من أسلحة، بما فيها الأسلحة الكيماوية على نطاقٍ ضيّق، لضرب حركة التحرر والحرية في سوريا. وإضافة إلى ذلك، فإن التشرذم الذي تعاني منه المعارضة المنقسمة تحت ثلاثة وعشرين فصيلاً على الأقل، بعضها تابع للجيش السوري الحر، وفصائل أخرى مستقلة، جعلها تعاني من ضعف شديد، وخاصة بعد أن جفت المساعدات العسكرية التي كانت تقدَّم لها بحجة أن جزءاً منها قد يذهب إلى «جبهة النصرة» التي وضعتها واشنطن على قائمتها الإرهابية. ويبدو أنّ الفترة القادمة، خلال شهر أو شهرين من الآن، قد تشهد تصعيداً خطيراً جداً من قِبل نظام الأسد وحلفائه لمحاولة القضاء على المعارضة السورية بشكلٍ حاسم عسكريّاً، وخاصة أنّ المؤتمر الدولي المخطط له قد أُخِّر لحوالي شهر ونصف حتى شهر يوليو القادم، وربما يتصادف عقده مع حلول شهر رمضان المبارك، الذي تخفّ فيه عادةً المعارك في معظم حروب الشرق الأوسط. ومن ناحيةٍ ثانية، فإنّ أصدقاء سوريا يدعمون المعارضة عبر مفهوم حرب العصابات، الذي لا يتطلّب الكثير من الأسلحة الثقيلة، بل يتطلّب عدم الاحتفاظ بمناطق محررة، حيث تستهدف من قِبل قوات الأسد. بينما يمارس الثوار سياسة تحرير المدن والقرى السورية بمساعدة أبناء تلك المناطق. وقد نجحت استراتيجيتهم العسكرية في مناطق شمال سوريا والرقة وغيرها. وحينما اقتربت قواتهم من المناطق القريبة من ريف دمشق، وكذلك القرى القريبة من الحدود اللبنانية، وجدنا أن حلفاء الأسد ينجحون في تجميع قواتهم في هذه المناطق ويقومون بتطهير الأجزاء الساحلية المحاذية لبانياس وحمص، حتى يتم تغيير طابعها السكاني، لكي تصبح بمثابة خطة بديلة لحكام دمشق، في إعادة تموضعهم المستقبلي على الساحل. ويبدو أن المعارضة السورية في الداخل قد انتبهت مؤخراً إلى محاذير التفتت والتشرذم، وتحاول الآن جمع مقاتليها باختلاف مشاربهم السياسية لإعادة تسلم زمام المبادرة والسيطرة مجدداً على طريق دمشق درعا، عبر استعادة مدينة «العتيبة» القريبة من ريف دمشق. أما القوى التي تساند الثورة السورية، فعليها أخذ زمام الأمور وحزم أمرها وعدم التردد في تزويد المقاومة السورية بأنظمة دفاع جوي تغيّر من السيطرة المطلقة لقوات الأسد الجوية على سماء المعركة. وتدرك الدول العربية وتركيا أن الأسد ونظامه لم يعد خطراً على شعبه فقط، فسياساته القديمة في لبنان، وعمليات التفجير في الريحانية التركية، كلها تشير إلى أن هذا النظام بات يمثل خطراً على دول المنطقة بأكملها. وأن رحيله بات يمثل أولوية استراتيجية للدول العربية وتركيا، وكذلك للمصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. وينبغي أن يكون الحديث اليوم منصبّاً على التخلص من هذا النظام الدموي. فالهروب إلى طاولة المفاوضات في وقتٍ يمارس فيه النظام عمليات القتل والتطهير العرقي والمذهبي الممنهج، من شأنه أن يعطي إشارة إلى الأسد بأنه بات حاكم سوريا الأوحد لخمسين عاماً قادمة. وشهرا يونيو ويوليو القادمان سيكونان من أدمى الشهور للمواطنين السوريين، ولكن على أصدقاء سوريا أن يقفوا مع المقاومة حتى تعيد تموضعها بشكلٍ قوي على الأرض، وتفاوض من موقع قوّة. أما عدا ذلك فهو القبول بالأمر الواقع، والرضوخ له. وبالتالي، ستضطرّ الدول الإقليمية والكبرى إلى شنّ حرب إقليمية ضد نظام الأسد، إذا لم يسقط من الداخل. فالدبلوماسية لن تكون يسيرة بدون وجود مواقف قوية لها على الأرض. وعدا ذلك، سيكون نفخاً في قِربٍ مخروقة، لا تستطيع تحمّل السفر عبر الصحراء.