في عام 2012 حضرت «ديانا بنتو»، المؤرخة والمحللة السياسية اليهودية الإيطالية الأصل، التي تعيش في باريس، مؤتمراً في إسرائيل. وكغيرها من الزائرين القادمين من أوروبا، عادت «بنتو» من المؤتمر تحدوها الرغبة في الكتابة عن التجربة، فألفت كتابها «إسرائيل تحركت» الذي نعرضه هنا، والذي تلاحظ فيه أن الأمر لم يعد يقتصر على كون الأوروبيين لم يعودوا يهتمون كثيراً بإسرائيل، ويهتمون أكثر بفلسطين، وإنما إسرائيل بدورها لم تعد مهتمة بأوروبا. وربما يكون ذلك أمراً عادياً وقابلاً للاستيعاب، لكن الاكتشاف المدهش حقاً هو أن أعين الإسرائيليين لم تعد موجهة إلى الولايات المتحدة، وإنما إلى الصين والهند. وفي معرض تفسيرها لذلك التحول، تقول المؤلفة إن اليهود قد اقتلعوا لقرون طويلة من المكان، وسكنوا بدلاً من ذلك في الزمان، وإن الصهيونية عندما تبلورت كحركة قومية يهودية، استعادت تقدير اليهود وإدراكهم مرة أخرى لأهمية «المكان». بيد أن المشكلة التي واجهت إسرائيل منذ قيامها هي شعورها بأنها ليست جزءاً أصيلاً من المنطقة التي تعيش فيها، ولذلك تنظر إلى نفسها كما لو كانت تعيش في فضاء افتراضي يقتصر عليها ويقع في قلب العالم المتعولم الذي يزداد ارتباطاً بآسيا. فإسرائيل باتت حسب تعريف الكاتبة «تعيش في يوتوبيا» بالمعنى الحرفي للكلمة. ثم تشرح «بنتو» الذهنية الإسرائيلية الحالية، والتي لا تدين بشيء لما يعرف بالسرديات المابعد كولونيالية، وإنما تدين لوجهة نظر ناتجة عن قرون من «اللادولة» والـ«لا مكان». تقول «بنتو» إنه ليس بمقدور دولة العيش في فضاء افتراضي، فالوطن الترابي هو الواقع الذي لا مهرب منه، وترى أن ضعف إسرائيل يكمن في افتقارها لأي عادة من عادات «التاريخ المكاني»، كما لا تتوافر لديها وسائل ناجعة للتفاعل مع الجيران، أو مع الدول الأخرى، حيث تنظر إلى نفسها على أنها عرضة لأفعال الآخرين وليست الفاعلة. وتلاحظ المؤلفة شعوراً عاماً سائداً بعدم الانتماء للمكان، وتدلل على ذلك مثلاً بأن عدداً كبيراً من المشروعات الجديدة في مجال التقنية المتقدمة ليس لديها أدنى رغبة في التحول لشركات كبرى تعمل في إسرائيل وتقوم بتوظيف عدد كبير من الناس، وأن أصحابها من الإسرائيليين يقومون بمجرد نجاحها وتحقيقها الشهرة بعرضها للبيع لإحدى الشركات العولمية الكبيرة. وتدرك «بنتو» أن دولة كهذه غير قابلة للاستمرار، وأنها قد تأسست على الغرور والأوهام، وأن القسم الأكبر من الإسرائيليين الأكثر نجاحاً يعيشون داخل فقاعة تعزلهم عن موضوعات، مثل الاستيلاء على الأراضي والتوسع المكاني الذي تمارسه دولتهم. أما الفلسطينيون فيما وراء الخط الأخضر، فهم غير مرئيين بالنسبة لهؤلاء الإسرائيليين. وبنتو لا تستطيع حل أحجية مستقبل هذه الدولة، التي تتحرك للأمام والخلف وتدور في مكانها، وهي في حالة من الحركة الدائبة، لكن لا أحد فيها يعرف تحديداً إلى أين تتجه؟ إن الشيء الوحيد القابل للتنبؤ هو «الحركة في مطارات إسرائيل»، أي رحيل مواطنيها الأكثر تميزاً. فهؤلاء عندما يصل بهم الوضع في إسرائيل إلى درجة يجدون أنفسهم فيها غير قادرين على التكيف، يرحلون تاركين وراءهم البقية من الناس العاديين. من الواضح أن قدرة المؤلفة على التفلسف والتنظير تفوق قدرتها على الوصف، حيث نراها تطلق لنفسها العنان في وصف المعالم السياحية والدينية في القدس العتيقة والمتاحف الأثرية والمتاجر الفخمة في شارع ديزنجوف في تل أبيب، وتنهي الكاتبة بوصف جولتها في السوق الحرة في مطار بن جوريون. ومن الملاحظ أن رحلتها لم تخرج عن القدس وتل أبيب، حيث لم تزر المدن الصحراوية التي يسكنها فقراء اليهود المنحدرين من شمال أفريقيا، ولا الضواحي الفاخرة لمدينة قيصرية التي تنتشر فيها الفلل المملوكة لليهود البورجوازيين وكبار رجال العصابات. كما لم تزر مدن عكا وحيفا والبلدات العربية في الجليل الأعلى. وتصف الكاتبة بشكل دقيق ما لمسته في المقاهي والمطاعم داخل المراكز التجارية الحديثة، والتي تقول إنها أماكن يتجمع فيها الناس من مختلف الجنسيات والخلفيات، وإن ما يجمعهم هو الرغبة في تجاهل كل منهم للآخر. ومن الملاحظ أيضاً أنها كتبت عن المكان، وليس عن خطوط الصدع والصراع كما يفعل غيرها من الكتاب والمفكرين. فإدراك هؤلاء لجريمة الاحتلال الصهيوني، كان يعفيهم من واجب منح الإسرائيليين، وإسرائيل ذاتها ومعالمها، أي اهتمام. سعيد كامل ------ الكتاب: إسرائيل تتحرك المؤلف: ديانا بنتو الناشر: هارفارد يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2013