تتمتع البلدان العربية بثروات طبيعية هائلة لم يستغل الكثير منها حتى الآن، حيث يعود ذلك إلى العديد من المعوقات، بما فيها نقص الاستثمارات وتردد المستثمرين الأجانب بسبب ضعف الضمانات وتخلف البنى التشريعية والقانونية وعدم الاستقرار. وتستند مخاوف المستثمرين الأجانب إلى تجارب مؤلمة بالنسبة لهم، إذ تمثلت معاناتهم في بعض البلدان العربية في صورة خسائر كبيرة نجمت عن المصادرة والبيروقراطية وغياب الشفافية والأنظمة والقوانين والحوكمة. أزمة شركة «سنتامين» في مصر، وهي شركة مساهمة عامة تعمل في مناجم الذهب ومدرجة في بورصتي لندن وتورنتو، وتدير في الوقت الحالي منجماً للذهب تعد مثالاً حياً على فوضى الاستثمار التي تعاني منها بعض البلدان العربية. والقصة تبدأ مع حصول الشركة على امتياز الإنتاج بمصر في عهد مبارك، إلا أن تغير النظام أدى إلى إعادة النظر في هذا الامتياز، وذلك على رغم وجود اتفاقية بين الحكومة المصرية السابقة وشركة «سنتامين»، حيث رفع الإدعاء العام دعوى ضد الشركة التي تتوقع أن تنتج العام الحالي 320 ألف أوقية ذهب وبنسبة زيادة 22 في المئة عن العام الماضي، وهو ما يفتح المجال أمام تطوير إنتاج الذهب وما قد يتركه من انعكاسات إيجابية على الاقتصاد المصري. لقد أدت اتهامات الإدعاء العام إلى تأجيج المضاربات على سهم الشركة الذي انخفض بنسبة كبيرة بلغت 21 في المئة في آخر يوم تداول من الأسبوع الماضي و60 في المئة منذ بداية الأزمة في شهر نوفمبر من العام الماضي، مما كبّد المساهمين خسائر كبيرة وطرح من جديد جدوى الاستثمار في البلدان غير المستقرة، وخصوصاً أن الحكومة المصرية الحالية سبق وأن قررت سحب بعض الأراضي الاستثمارية أو إعادة التفاوض بشأنها مع مستثمرين خليجيين. وللأسف هناك أحداث مشابهة في العديد من البلدان العربية، إذ أن الأمر لا يتعلق فقط بالأنظمة والقوانين التي تحفظ حقوق المستثمرين، وإنما أيضاً بالالتزام بالتعهدات بغض النظر عن تغير الحكومات، ففي البلدان المتقدمة تتغير الحكومات باستمرار نتيجة للانتخابات الدورية، وربما تختلف السياسات الاقتصادية والمالية للحكومة الجديدة تماماً عن سياسات سابقتها، إلا أنها تعلن في أول يوم تتسلم فيه السلطة عن التزامها التام بتعهدات الحكومة السابقة، وهو ما يعزز الثقة والاطمئنان لدى المستثمرين المحليين والأجانب، ففي حالة شركة «سنتامين» فإن الشركة لم تتعاقد مع الحكومة السابقة باعتبارها حكومة مبارك، وإنما باعتبارها حكومة جمهورية مصر العربية، وهو ما يشكل التزاماً تجاه أي حكومة مقبلة. وحول هذه القضية أيضاً يمكن التذكير بتفكك الاتحاد السوفييتي، حيث أخذت الحكومة الروسية، باعتبارها تمثل أكبر جمهورية، كامل تعهدات الاتحاد السوفييتي السابق تجاه بلدان العالم، علماً بأنه كان بإمكان روسيا التنصل من ذلك لكون الدولة السوفييتية لم تعد قائمة. والحقيقة أن منجم السكري للذهب يشكل جزءاً صغيراً من أعمال شركة «سنتامين» حول العالم، إذ إن الضرر الأكبر سيلحق بالاقتصاد المصري وبسمعة مصر الاستثمارية التي هي بحاجة ماسة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية والحد من هروب رؤوس الأموال المحلية. ويتطلب ذلك من مصر ومن البلدان العربية التي طالتها التغيرات السريعة إعادة النظر في العديد من قراراتها لوقف التدهور في اقتصاداتها وإعادة الثقة من خلال الضمانات والالتزام بالتعهدات، إذ لا يكفي اللجوء إلى القضاء المسيس في هذه الدول. نعم من حق كافة البلدان إعادة النظر في الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية المبرمة، إلا أن ذلك يتم، إما باتفاق الطرفين أو الأطراف المعنية أو بانتهاء الفترة الزمنية للاتفاق، حيث يمكن إعادة صياغته من جديد أو حتى إلغائه، وفيما عدا ذلك، فإن الاقتصادات العربية ستشهد المزيد من هروب رؤوس الأموال وتدني مستويات الثقة وما ينجم عنهما من فقدان المشاريع التنموية التي هي بحاجة ماسة لها لتوفير المزيد من فرص العمل وزيادة معدلات النمو.