طيور حمام دمشق البيضاء كياسمين الشاميات، والحمام العراقي الناهض الصدر كالبغداديات، وحمام مروحية الذيل المصرية التي تتهادى كالقاهريات... لو أن أسراب هذه الطيور انطلقت في افتتاح مؤتمر «منظمة المدن العربية» لاستحق المؤتمر الذكر في تقارير الصحافة العالمية اليومية عن أحداث المدن العربية. ولو أن المؤتمر المنعقد بالدوحة بحث أوضاع دمشق وبغداد والقاهرة لسد نقص التقرير الحافل «حال المدن العربية 2012» الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات «موئل». ولو يُسمح اليوم بقراءة قصيدتي «بغداد عيوني» لازدادت حميمية ورشة المؤتمر الختامية «المدن العربية: مدن تعليمية ومضيافة» فأمهات المدن العربية أكبر «تحديات الاستدامة» التي تشكل عنوان المؤتمر؛ دمشق أقدم مدن العالم المأهولة منذ 10 آلاف عام، والقاهرة من أكثر مدن العالم المتماسة السكان، وبغداد طوّرت، وهي تنبني من مهندسيها وعلمائها، ومعمارييها، وحتى شرطتها، وقارئي طالعها الذين حددوا ساعة ويوم وضع حجرها الأساس في 31 يوليو 762م. ولا تعرفُ الأممُ عظمة مدنها التاريخية حتى تدمرها. أوروبا تحمل حتى اليوم في بدنها وعقلها عواقب حربين عالميتين سجلتا أرقاماً قياسية في تدمير المدن. والويل علينا إذا كنا لم ندرك بعد عواقب خراب مدينة حلب، التي كان مقرراً أن تقام فيها قمة المدن العربية، والويل من أحفادنا عندما يدركون ذلك. المدن العربية لم تعُد كما في القرن الماضي، جزرا وسط بحر من الريف. تقرير «حالة المدن العربية 2012» الذي يقع في 250 صفحة يكشف أن أكثر من نصف سكان العالم العربي، البالغ عددهم 357 مليون نسمة، يعيشون في المدن، وارتفع عدد المدن العربية التي يزيد عددها عن المليون من اثنتين فقط عام 1950، إلى 25 مدينة اليوم، وتضاعف عدد سكان المدن العربية أربعة أضعاف، منذ عام 1970. وبعض المدن، كحلب، تضاعف عدد سكانها خلال الفترة نفسها ستة أضعاف، من 500 ألف إلى نحو 3 ملايين حالياً. وحلب كجميع المدن العربية، يُتوقعُ أن يتضاعف عدد سكانها مرة أخرى ضعفين مع حلول عام 2025 ، والمثل الحلبي يقول: «لا تبلع العجو بتطلع سجرو بقلبك». وكيف حال المنطقة التي تتعرش قلبها أشجار ستة ملايين نواة حلبية؟ و«ما المدن غير سكانها»، حسب شكسبير. تقرير «موئل» الذي كان ينبغي أن تخصص له جلسة قراءة في مؤتمر الدوحة، يتوقع أن تظل القاهرة في عام 2025 أكبر المدن العربية بعدد سكانها الذي سيتجاوز العشرة ملايين، تليها بغداد في المرتبة الثانية، والتي سيبلغ عدد سكانها ثمانية ملايين، والثالثة الخرطوم التي يقترب عدد سكانها من 8 ملايين. وتتنافس بعدها الرياض والإسكندرية على المرتبتين الرابعة والخامسة، تليهما جدة، وحلب، وصنعاء، التي تحتل حالياً المرتبة 11، فيما تفقد الدار البيضاء مرتبتها السابعة حالياً. والمدن العربية تمسك اليوم دفة التغيير في المنطقة. تعرض ذلك ورشة «المدن العربية وتحديات الاقتصاد الأخضر» التي ناقشت دور القيادة السياسية والاقتصادية في التحول إلى الاقتصاد الأخضر، ومبادئ الاقتصاد الإسلامي الأخضر، والتجارب الرائدة في مجال الاقتصاد الأخضر في الإمارات والمغرب وقطر والكويت. فيما ناقشت ورشة «التنمية الحضرية لمعالجة الفقر في المنطقة العربية» مواضيع تقليص الفوارق الحضرية، وإنشاء مدن للجميع، والسياسات الحضرية لمعالجة الفقر، وعرضت تجارب مختارة للمجالس البلدية العربية في صياغة وتنفيذ سياسات النمو الحضري الداعمة للفقراء. وتناولت «ورشة المدينة الرقمية» إنشاء وإدارة «المدن الذكية» التي تعتمد الأنظمة الإلكترونية واللاسلكية في إدارة أعمالها وتسيير نشاطاتها اليومية. ورشة «المدن العربية: مدن تعليمية ومضيافة» التي ينظمها في مؤتمر الدوحة «الملتقى التربوي العربي في الأردن»، تعرض أساليب غير نمطية في علاج مشاكل اتساع الهوة بين فقراء وأغنياء المدن، وإزالة الجدران الجغرافية والاجتماعية والثقافية بين أحياء المدن، وهذه مشاكل معقدة لا تحلها عمليات التعلم الفردي، وتستدعي التركيز على عمليات «التعلم» المجتمعية للمدينة ككل: المجموعات، والمؤسسات، والمجتمعات المندمجة في عمليات تعلمية تمهد لمعظم سكان المدن التعامل مع تحديات تتطلب المزيد من التفكير النقدي، والتساؤل، والاستماع، والحوار، والإبداع، والقراءة، والتعاون، والتعبير، والحساسية، والمسؤولية المدنية، وحل الخلافات، واتخاذ القرارات. وتعرض الورشة تجارب ارتباط التعلم والضيافة بالمدينة في الأردن ولبنان وسوريا وفلسطين، وفي فرنسا. وفي جميع هذه التجارب تستخدم «المدن التعلّمية» التعلّم كوسيلة لتطوير الإلفة المجتمعية، والنمو، والتطور الاقتصادي لكافة أنحاء المدينة. وتوافق تجارب «المدن التعلمية المضيافة» ما يسميه الأكاديميون المعاصرون «موزاييك المدينة العربية». فأحدث الدراسات تبين أن طبيعة المدن العربية والإسلامية أعقد من أن تفسرها نظرية ابن خلدون التبسيطية، حول صراع الحضارة والبداوة. حسن الدين خان، أستاذ العمارة والحفاظ على التراث التاريخي في جامعة "روجر وليامز" بالولايات المتحدة، يرصد «النمو العجيب للمدن في العالم الإسلامي، الذي جعل تمييز الحضري من الريفي أقل أهمية، حيث بات السكن يحمل خصائص الاثنين معاً». ويعيد خان تعريف المدينة فكرياً بأنها «سلسلة أغشية، أو موزاييك من أجندات متداخلة، تساعد في كشف شخصيتها ووظائفها، وتميزها كشبكة تفاعلات متعددة تزداد تعقيداً». ويصدر بحث خان «الهوية والعولمة والمدينة الإسلامية المعاصرة» في كتاب «المدينة في العالم الإسلامي» عن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت. ويتضمن الكتاب دراسات عن النمو الخارق لمدن عربية كانت حتى وقت قريب قرى صغيرة، كمدينة دبي «التي تبحث عن هويتها»، وهو عنوان دراسة الباحثة العربية ديبا حيدر، التي ترصد «سعي دبي العاجل إلى الحداثة، واللحاق بالعالم المتقدم، بل حتى تجاوزه»، وكيف اختصرت «ثلاثمائة عام من التطور المدني والاجتماعي والتكنولوجي في ثلاثين عاماً». والبغداديون موزاييك من أجندات مختلفة، وشبكة تفاعلات بالغة التعقيد. ولأجل عيونهم المختلفة ألوانها كقوس قُزح، إضافة إلى اللون الأسود، كتبتُ قصيدة «بغداد عيوني»، وأعرضها هنا، تحية إلى المؤتمر الذي يختتم أعماله اليوم. «بغداد عيوني، حزنك يوجعني، يُضنيني. دمعك يحرقني، يُبكيني، جُرحك يُدميني. بغداد عيوني، يا أحلى أُمٍ في الدنيا حِبّيني، ضُمّيني لصدرك، ضُمّيني. أروني دمعك، أرويني، شُدّيني لجُرحك، شُدّيني. أشفني من تاريخ الذل، وخوف قرون. بغداد عيوني، يا أشجع أُمٍ في الدنيا، ناديني، اعطني كفك، أهديني. خلّي اسمك فوق جبيني. اسقيني من جمر يقينك، كَيْ أصحو من خمر ظنوني. بغداد عيوني، ناجيني. قلبي يقفز تحت خطاك، ويصرخ: دوسيني. بغداد عيوني دلّيني، كيف أُمزَّقُ عشر سنين وأبقى حياً، دلّيني، كيف أُعذَّبُ عشر سنين، وأبقى إنساناً، دلّيني. بغداد عيوني، دلّيني أبقى إنساناً، حياً، دلّيني».