هل تتذكرون فضيحة «الـ16 كلمة»؟ إذا كنتم تتذكرونها، فالاحتمال أنكم قد قضيتم وقتاً أطول من اللازم في أروقة واشنطن السياسية -حرفياً ومجازياً. وإذا كنتم لا تتذكرونها؛ فإنها باختصار تتمثل في أن سفيراً أميركياً سابقاً اسمه "جوزيف ويلسون" وجه اتهاماً عام 2003 مفاده أن بوش قد ضمن خطابه عن "حالة الاتحاد" (ادعاء مكوناً من 16 كلمة) بشأن العراق، كان كبار مساعديه يعرفون أنه زائف مؤداه وفحواه أن صدام حسين كان يسعى لشراء اليورانيوم من دولة النيجر. وبعد ذلك فاقم ويلسون من حدة الضجة الحزبية التي تلت ادعاءه، من خلال الزعم بوجود مؤامرة في البيت الأبيض تهدف لمعاقبته على إدلائه بتلك المعلومات من خلال الكشف عن هوية زوجته العاملة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه). ومعظم ما قاله ويلسون ثبت فيما بعد أنه كان مبالغاً فيه إلى حد صارخ، بل وزائف. ولكن ذلك لم يوقف الديمقراطيين ووسائل الإعلام الحزبية عن استنفاد سنوات في تدبير المؤامرات، والقيام بمحاولات لإلصاق المسؤولية السياسية والجنائية ببوش، ونائبه ديك تشيني، ومستشاره السياسي كارل روف. وفي ذلك الوقت، تشدق ويلسون بقوله: "من المهم للغاية بالنسبة لي أن أرى ما إذا كان بمقدورنا إجبار كارل روف على الخروج عنوة من البيت الأبيض، وقد قيدت يداه بالأصفاد"! وبعد عقد من الزمن، رأينا الإجابة الصحيحة على ما قاله ويلسون في بنغازي. مرة أخرى رأينا ذلك التركيز المرَضي على التصريحات العامة التي جاءت هذه المرة على لسان سوزان رايس سفيرة الولايات المتحدة لدى المنظمة الأممية، التي ظهرت في عدة برامج إخبارية تلفزيونية بعد خمسة أيام من الهجوم المسلح على القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي الليبية في الحادي عشر من سبتمبر الماضي لتقول إن الهجوم تطور عن مظاهرة ضد فيلم فيديو مسيء للإسلام. وكانت النظرية مرة أخرى هي أن ذلك التأكيد من جانب رايس كان نتاجاً لمؤامرة عالية المستوى لليِّ عنق الحقيقة. والخيط المشترك بين الحالتين، لا يتمثل فقط في الحزبية المبالغ فيها التي تقوم بموجبها وسائل الإعلام والسياسيون في اليسار بالتقليل من شأن ما يصمم اليمين على وصفه بأنه فضيحة ذات أبعاد تاريخية -أو العكس بالعكس؛ وإنما حرف ما كان يجب أن يكون مناقشة حزبية جادة عن نواحي قصور الحكومة عن مساره، والزج به في اتجاه آخر مغاير. فإذا كانت حكومة بوش قد استنتجت خطأً أن صدام كان يخفي أسلحة كيمياوية، ويحاول إحياء برنامج بلاده النووي، فإن إدارة أوباما من جانبها أخفقت في توفير أمن كافٍ للبعثة الدبلوماسية الأميركية في ليبيا، كما لم تستعد بصورة كافية لمواجهة طوارئ شمال أفريقيا في مرحلة ما بعد الثورات. ومثلما أن ويلسون لم يحث في ذلك الوقت على إجراء مناقشة جادة حول سبب الخطأ الذي وقعت فيه الاستخبارات الأميركية بشأن العراق، فإن ما رأيناه أمامنا هذه المرة هو الزعم بأن كلاً من سوزان رايس، وهيلاري كلينتون، وأوباما نفسه، وبدلاً من شغل أنفسهم بالكيفية التي عالجت بها واشنطن حالة ليبيا ما بعد الثورة، كذبوا بشأن طبيعة "الهجوم الإرهابي" على القنصلية في بنغازي. وبعض من شجبوا حملة مطاردة الساحرات التي شجع عليها ويلسون أيام إدارة بوش يكررون الآن تكتيكاته: فقد ركزوا أولاً على رايس التي كانت تقود حملة كي تصبح وزيرة خارجية قبل أن يقوم 97 عضواً من أعضاء مجلس النواب الجمهوريين بنشر رسالة تؤكد أنها عن قصد، أو عن عدم كفاءة ضللت الجمهور الأميركي. وعندما تأكد بعد ذلك أن رايس قد ألقت كلمة اعتمدت فيها على تقدير استخباري "إجماعي" معد من قبل مجتمع الاستخبارات، فقد تحول مروجو الفضائح للحديث عن "النقاط" التي اشتملت عليها كلمتها التي افترضوا أنها قد جرى التلاعب فيها من قبل الوزيرة كلينتون أو كبار مساعدي البيت الأبيض السياسيين، لإزالة الإشارات إلى مليشيا "أنصار الشريعة" المتطرفة، والهجمات السابقة على بنغازي. وفي الحقيقة أن التغيرات التي أدخلت على المسودات كانت نتاجاً -بشكل رئيسي- للتوترات والصراعات بين الأجهزة المختلفة: فوزارة الخارجية التي اعتقدت أن "سي آي إيه" وهي المسؤولة في المقام الأول عن بعثة بنغازي، كانت تسعى لاستباق تحقيق لمكتب التحقيقات الفيدرالي "إف. بي. آي"، ومحاولة نقل اللوم عن الإخفاق الذريع إليه. في الوقت نفسه، ووفقاً لما جاء في تقرير "آيه بي سي"، فإن كل مسودة من "نقاط" الكلمة كانت تقول إن الهجوم حصل بشكل عفوي وتلقائي بسبب الاحتجاجات التي وقعت أمام السفارة الأميركية في القاهرة، وتطورت فيما بعد إلى هجوم مباشر عليها. كان هذا ما قالته رايس. وربما يكون ما قالته خطأ، ولكنه كان هو التقييم الاستخباري المتاح في ذلك الوقت. وطالما أن الأمر على هذا النحو فأين هي الفضيحة في ذلك؟ هكذا نرى مرة أخرى، أننا وبدلاً من الانخراط في مناقشة بناءة كانت متاحة أمامنا، انخرطنا في خلاف حول الكلمات و"نقاط" الكلمات، وشهدنا المزيد من الأحلام في رؤية مسؤولي البيت الأبيض وهم يقتادون عنوة خارجه، وهم مكبلون في الأصفاد! --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة" واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"