في كل الحضارات القديمة الرئيسية أٌستخدم مفهوم السجن كوسيلة لاحتجاز وإزالة الحريات الشخصية من الناس الذين ارتكبوا جرائم، أو مخالفات كانت تعتقد بأنها غير أخلاقية، أو تعد انتهاكاً صارخاً لحقوق منظومة الدولة والمجتمع، أو لأية أسباب أخرى كان يراها القائمون على إدارة الدول والإمبراطوريات عقوبات مناسبة لقمع المعارضة السياسية غير السلمية أو السرية، أو تأديب وإيقاف الخارجين عن النظام المعمول به، ووضع حد لسلوكهم العدواني، أو عدم امتثالهم أو قبولهم للنمط الاجتماعي والسياسي السائد، أو لآليات العدالة التي كانت تمارس آنذاك. ولكن مع مرور الوقت، وتقدم الحضارات، تحولت السجون إلى مؤسسات إصلاحية لتعمل على تنفيذ مفهوم إعادة التأهيل والإصلاح للسجناء، بالإضافة إلى سجن الأفراد، أو المجموعات لأسباب مختلفة ومتنوعة، أو نتيجة حرب، أو لمنع تفاقم أي تهديد قد يضر بأمن الدول والمنظومات السياسية بكل أطيافها، واستقرار المجتمعات بصورة عامة، وحفظ الحقوق من خلال إخضاع الجميع لتحمل المسؤولية عن تصرفاتهم والقرارات التي يتخذونها في حياتهم طوعاً، وهم يدركون عواقب تلك الأفعال والأقوال والنوايا. ظلت الأوضاع في السجون قاسية طوال التاريخ، وفي أوروبا بالتحديد كلف هنري الثاني بناء السجن الأول عام 1166م جنباً إلى جنب مع المسودة الأولى لقانون العزل الإنجليزي واستخدام مفهوم هيئة المحلفين، وتقديم تشريعات السجن الأكثر تاريخية في عام 1215م وذلك عندما وقع الملك جون وثيقة "ماجنا كارتا" التي تنص على أنه لا يمكن أن يسجن أي إنسان دون محاكمة. وتحولت السجون لنماذج قريبة من السجون الحديثة التي نعرفها اليوم في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر، آنذاك بدأ السجناء بتلقي المزيد من الرعاية بتقديم مفهوم إعادة التأهيل. وبدأت الحكومات في جميع أنحاء العالم (خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة) إعادة النظر في موقفهم من الحبس الانفرادي. وأصبح نظام السجون الحديثة مُرفقاً بالبرامج التعليمية والمهنية والمجتمعية والتغذية الجيدة، وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية هي الرائدة في معدل حبس (743 لكل 100.000 شخص)، وفي دولة يبلغ تعداد سكانها 5 في المئة من سكان العالم، أضحى يوجد 25 في المئة من مساجين العالم، وجميع الأنظمة في العالم تؤمن بأن أخذ حرية المجرمين ومرتكبي الجرائم والمخالفات القانونية المختلفة، وإجبارهم على الامتثال لنظام، وانضباط معين بهدف الحد من ميولهم ودوافعهم الإجرامية هو حماية عامّة الناس، وهو المعروف بإسم الردع العام. وتشير دراسة علمية في بريطانيا حول الموضوع بأن 39 في المئة فقط من الجناة لم يرتكبوا جرائم بعد خرجوهم من السجن ونسبة كبيرة منهم وجهوا الاعتداء للذات أوللمقربين منهم ، بجانب تأثرهم بأقرانهم في السجن وتعلمهم مهارات إجرامية جديدة، وتجنيدهم إرادياً أو غير إرادي للعودة لحياة الجريمة وإمكانية الهروب من العقاب هذه المرة، بعد أن اكتسبوا خبرات إجرامية جديدة في السجن. من جانب آخر، يرى علماء الاجتماع والجريمة أن نظام العدالة الجنائية وعقوبة السجن لفترات أطول، لا يردع الشباب، خاصة من ارتكاب الجرائم، بل هو فقط يعطل فترة رجوعهم لارتكاب جريمة. ويرى كثيرون بأن فكرة السجون تخلصنا من المشكلة مؤقتاً والتركيز على سلوك السجين أصبح مكلفاً للغاية لوجستياً ومالياً، والقدرة على تشكيل سلوك السجين، لا يأتي إلا بوجود دوافع ذاتية، ووجود حوافز مختلفة للعودة للمجتمع بصورة سوية، ولا شك أن قابلية من هم في مطلع الشباب للعلاج تختلف عن من هم أكبر منهم سناً ووعياً، فيصبح الحبس غير فعال للسيطرة على سلوك الشباب، والسجان بمجرد لبسه لبساً مختلفاً يشير للسلطة يؤجج التمرد في اللاشعور لدى السجين، بجانب أن معظم العاملين في السجون عالمياً تأهيلهم العلمي لا يرتقي للتعامل مع ضحايا السجن وشخصياتهم، ولذلك السجن لن يكون أبداً العقاب الفعال للشباب أو مرتكبي الجرائم غير الخطيرة على حياة البشر، فسجن شخص لأنه سرق وهو عاطل عن العمل ومهمش لن يؤدي إلى إصلاحه، بل سيمقت المجتمع ويوجه كل غضبه تجاه أفراد ذلك المجتمع، الذي يُعتقد أنه خذله بجانب النظام الذي جعله عاطلاً عن العمل على سبيل المثال. ونحن لا نبرر للجريمة، أو نطالب بعدم أهمية معاقبة من يقوم بفعل مخالف للقانون، ولكن يجب أن يكون العقاب أكثر توافقاً مع العلم الحديث، ونشأة ونفسية وشخصية الفرد والبيئة والظروف المختلفة للبشر، فأن يسجن شخص لجريمة لم يؤذ فيها حياة إنسان، أو ارتكبها نتيجة إهمال ولصقت به وصمة عار ترافقه مدى الحياة، وينظر المجتمع له بنظرة مختلفة، وهي بحد ذاتها عملية عزل اجتماعي طبيعية لهذا الفرد، وسيتأقلم خارجياً مع حياة السجن ويتعلم مهارات سلبية لحماية نفسه وصراع بقائه، وللتعايش مع عتاة المجرمين في السجون، وبالتالي دخول عالم الجريمة، وبدل أن يصبح السجن مؤسسة تأهيل يصبح مؤسسة تجنيد عكسي. وبما أننا نتحدث عن أهمية التمكين في التنافسية الإقتصادية، فلابد أن ندرك أن التنافسية منظومة تكاملية تشمل التنافسية القيمية والأخلاقية المجتمعية، التي تجعل من الفرد كائناً يمتلك الصحة النفسية والعقلية، والقيم الإنسانية الرفيعة، وأن لا يغرق في قيم الخير ويتبناه فقط احتجاجاً وهروباً من واقعه، وتأثير ذلك على هويته ووطنيته، بجانب المقدرة على التعايش وتقبل الآخر، وبأن يكون شخصاً منتجاً في المجتمع الذي يعيش فيه وللبشرية بصورة عامة. فالسجن يجعل الإنسان يمر بأزمة مفاوضات الهوية، وهو أن يتساءل: لماذا أنا هنا ومن هو المذنب الحقيقي؟ ولماذا أعاقب مرتين بالسجن؟ وبنظرة المجتمع وردة فعل المؤسسات تجاهي كصاحب سوابق. وتبدأ مرحلة التهميش والإقصاء والتغريب لهذا الفرد، وعليه أرى ضرورة تحول السجون كمدن تأهيلية إنتاجية كالمدن الصناعية يعيش فيها الشخص وينتج طوال اليوم، وفي نهاية اليوم يذهب لمنزله وأسرته على أن يوضع بيده أي نوع من التكنولوجيا التتبعية الحديثة التي تكفل بأن يلتزم بعقابه لفترة معينة وفق المسار المحدد له، بحيث لا يغادر المنطقة الجغرافية المحددة له، ولا يشارك في أي فعل مشين، أو يرتكب أي مخالفة ضد القانون والدين والأعراف الاجتماعية المتعارف عليها، وأن يربط العقاب بفرض ضريبة عليه طوال فترة عقوبته تساوي نصف دخله توضع في صندوق لدعم أبحاث الجريمة ودعم المشاريع الخاصة ذات الجدوى للذين سبق لهم أن تم إثبات تهم وجرائم معينة عليهم ومعاقبتهم عليها، وتمكين المجتمع بصور عامة، ناهيك عن شهادة حسن السيرة والسلوك، والتي تدين الشخص مدى الحياة، إذا ارتكب جنحة، أو جناية، أو مخالفة قانونية ليعاني مدى حياته، ويبقى سجله ملطخاً مدى الحياة، يذكره ولو بعد 20 سنة بأنه ارتكب جرماً، ويستمر العقاب إلى ما لا نهاية. أقترح تقسيم شهادة السيرة والسلوك لمستويات لا تعيق اندماج الأشخاص في المجتمع وعودتهم الطبيعية، لتكون تلك الشهادة حماية للمجتمع ككل بمن فيهم الجناة، ومن ارتكبوا جنحة، أو مخالفة قانونية.