النظام الديمقراطي ليس فقط صناديق اقتراع وانتخابات وشعارات مدوية، وإنما هو أولًا وقبل كل شيء عقليات وثقافة ومواطنة ومسؤولية يلتزم بها الخاص والعام، خاصة عندما ينتقل المجتمع من مجال سياسي معين إلى مجال سياسي آخر؛ فنجاح التحول الديمقراطي يبقى مرهوناً بثنائية القيم الثقافية في المجتمع وصيرورة العملية الديمقراطية... فالتعددية والمواطنة وحقوق الإنسان والمساواة، وغيرها إذا لم تجذر في إطار القيم العميقة للمجتمع، فإن المجال السياسي العام يبقى مبتوراً، وقد تتعثر آليات الانتقال الديمقراطي إلى حين، وقد يأخذه الفاعلون السياسيون ويغلوه إلى غيابات الظلمات، فتكون بذلك الآليات الجديدة أو الناشئة ضعيفة تتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف، وإذا صمدت لمختلف الصراعات والشد والجذب، فقد تحتاج إلى وقت طويل وإلى عقود من الممارسة لتتحول إلى ديمقراطية حقيقية. وهذا لا يعني أن صناديق الاقتراع والانتخابات غير مجدية، كلا! إذ هي واحدة من أدوات المجال السياسي العام، ولكن لا يمكنها لوحدها أن تكون وقود السفينة الديمقراطية، إذ تحتاج هذه السفينة إلى أدوات أخرى لا تقل أهمية عنها، وعلى رأسها تجذير الثقافة والوعي الديمقراطيين لدى الجميع. والطامة الكبرى هي أنه في دول ما بعد التغيرات السياسية الأخيرة في الوطن العربي كمصر وتونس، يظن فيها بعض الأحزاب أنها بوصولها عن طريق صناديق الاقتراع، فإنه يجب إحكام إقفال المجال السياسي العام في وجه النقد والمساءلة ريثما تستقر آلياته وتزدهر أشجار التنمية... وهذه منذرة بسلطوية أكثر فتكاً وجرماً كما هو معروف في العلوم السياسية المقارنة، وقد يصل الفاعلون السياسيون داخل المجال السياسي العام إلى درجة الإنهاك المتبادل فتضيع مصالح الخاص والعام. ثم لا ينبغي أن ننسى أن هذه ضريبة أخرى من ضرائب بعض الانتقالات الديمقراطية المعروفة في تاريخ البشرية أي تلك التي تكون عن طريق ثورة، أو طريق تدخل أجنبي، أو تأثير الدول المجاورة، ويكفي استحضار تجارب مصر وتونس والعراق، واستحضار المآلات السياسية والمؤسساتية وانتظارات الرأي العام، خاصة انتظارات من وقع عليهم عبء انطلاقها (الشعوب في مصر وتونس والقوة الأميركية في التجربة العراقية) لتمثل ذلك. فالذي وقع صراحة هو أن كثيرين ظنوا أن المرحلة الانتقالية في بيئة محلية معقدة يجب إنهاؤها فوراً بصناديق الاقتراع التي لم تكن لها مفاتيح سحرية فأعطيت مقاليد الحكم إلى فاعلين لم يحسنوا ركوب سفينة التغيير بعد انهيار النظام السابق. وتبقى أعظم وسيلة لتحقيق وتجذير قواعد الديمقراطية هي تلك التي تكون عن طريق الميثاق السياسي، أي الميثاق التعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة؛ وهذا يتطلب ذكاء وحنكة ودهاء وبعد نظر من الجانبين، خاصة من النخبة السياسية في الحكم... والتجربة المغربية مجسدة لهذا النوع من الانتقال وهو المشهود بنجاحه في أدبيات علم الانتقال الديمقراطي (Democratization Studies) كما يمكن أن نقرأ ذلك في كتب خوان لينز وألفريد ستيبان وفيليب شميتر وغيرهم عن أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، بل وحتى عن أوروبا الغربية... وأنصح كل متتبع حصيف، وكل فاعل سياسي حكيم، بإعادة قراءة الكتاب الكلاسيكي الجماعي لأودونيل O’Donnell وشيمتر Schmitter وعنوانه: (Transition from Authoritarian Rule: Southern Europe) لأن فيه من الدروس والعبر والمواعظ والتجارب التاريخية ما لم يتوافر في غيره، وهذا الكتاب يعطي تفسيراً جامعاً للميثاق السياسي المنشود: "الميثاق اتفاق قد يكون غير علني بين مجموعة قوى ساعية لتحديد -أو إعادة تحديد- القواعد التي تحكم ممارسة السلطة على قاعدة ضمانات متبادلة للمصالح الحيوية لكل الأطراف المشاركة في العملية"، وهذه التسوية السياسية تغني البلاد والعباد عن ويلات الفتن وسنوات من المجهول واللامسؤولية لأن التغيير يأتي من الداخل ويعكس التوازنات الدقيقة للقشرة الحامية للبلد، والتي لابد من الحفاظ عليها لتبقى بعض عناصر الميثاق أساسية ودائمة في ترتيبات التحول... كما أن هذه الوسيلة تبقى منوطة بالدينامية الاجتماعية والفاعلية السياسية لعملية التحول... وهذه العملية هي التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي في المغرب عندما أتت حكومة عبدالرحمن اليوسفي إلى الوزارة الأولى، وحزبه حزب اشتراكي معارض، لتتبلور قواعد الميثاق التعاقدي وليصل أوجه بعد الدستور الجديد الذي صادق عليه كل المغاربة في سنة 2011 ولتصل حكومة عبد الإله بنكيران إلى الحكم، وليتجذر السلم الاجتماعي والسياسي في أعلى تجلياته مقارنة مع دول الثورات العربية، أو مع دول التدخل الأجنبي كالعراق. ومن مميزات هذا الميثاق السياسي مسألة "الاعتدال" لدى كل القوى السياسية التي تشارك في عملية التفاوض أو بتعبير آخر، توسيع المجال السياسي ومقايضة المشاركة بالاعتدال، وهو ما حصل في الأرجنتين حين وافقت النخبة السياسية في الحكم على مشاركة البيرونيين في النظام، وفي إسبانيا عام 1977 عندما اعترفت سلطة الحكم بالحزب الشيوعي، والأوروغواي، عندما اعترفت عام 1948 بما يسمى بالجبهة العريضة... فالملكية في المغرب كانت استباقية ومظلتها كانت حامية للدولة، كما أن الأحزاب كانت ناضجة مقارنة مع نظرائها في الدول العربية الأخرى، كما أن مقترحات الملكية تعدت مطالب الأحزاب السياسية مجتمعة حتى حق لنا أن نكتب في بعض تحليلاتنا أن الميثاق التعاقدي الذي لا يمكن أن يكون إلا سياسياً أي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة تعدى هذه الدرجة ليصبح ميثاقاً -ما فوق تعاقدي- أي بين النخبة السياسية في الحكم وشرائح المجتمع المدنية، ومع ذلك فإن تجسيد التغيير السياسي لا يمكن أن يحمل لواءه في شقة الثاني إلا الأحزاب السياسية لأنها هي الوحيدة المخولة في العلوم السياسية لتجسيد المطالب المجتمعية في مطالب سياسية والمشاركة في الانتخابات وغيرها، فالكرة اليوم بأيديها.