لاحظ أحد الباحثين الاجتماعيين أن حركية التغيير العربي الراهنة بدلاً من أن تدفع حركة تحديث المجتمع العربي، أدت على عكس ذلك إلى إرجاعه إلى البنيات والهويات العشائرية والطائفية التقليدية، وأفضت إلى تقويض الرصيد التنموي للدولة الوطنية الحديثة. استنتج البعض من هذه الملاحظة أن المجتمعات العربية ليست جاهزة للديمقراطية التعددية، التي تقتضي مستوى معيناً من النمو الاقتصادي والاجتماعي وتماسك الكيان الأهلي. ليس النقاش بالجديد في الفكر السياسي العربي، بل يرجع إلى بدايات تشكل النظام السياسي العربي. يمكن أن نميز في هذا السياق بين نماذج ثلاثة متمايزة من التحديث برزت في العالم العربي، نشير إليها من خلال تجارب بلدان المغرب العربي المركزية (المغرب والجزائر وتونس) التي تشكل حقل اختبار ناجع لمسالك التحديث العربي. اتبعت البلدان الثلاثة غداة استقلالها طرقاً مختلفة للتحديث: التحديث الصناعي والتنموي في الجزائر، والتحديث الثقافي والاجتماعي في تونس، والتحديث السياسي والدستوري في المغرب. تبلورت التجربة الجزائرية منذ استيلاء بومدين على السلطة سنة 1965، وقامت على مشروع استثمار الثروة النفطية لبناء قاعدة صناعية قوية تؤهل البلاد لتكون قاطرة النمو في المغرب العربي وأفريقيا تكريساً لدور استراتيجي محوري في المنطقة. في فبراير 1971 أعلن "بومدين" شعار "الاستقلال النفطي" بتأميم شركات البترول الفرنسية، وشرع في تنفيذ استراتيجية النهوض الصناعي بعد ارتفاع أسعار النفط إثر حرب أكتوبر 1973. وهكذا عهد بومدين إلى وزيره للتصنيع "بلعيد عبد السلام" بمهمة بناء القاعدة الصناعية الثقيلة بإنشاء 70 شركة عملاقة في كل المجالات، كما أعلن في الآن نفسه "الثورة الزراعية" على غرار التجربة الناصرية محدثا آثاراً نوعية على تركيبة المجتمع الجزائري الذي تحول بسرعة فائقة إلى مجتمع مديني شاسع. ورغم أن "بومدين" انحاز في سياسته الخارجية للمعسكر الشرقي بزعامة "الاتحاد السوفييتي"، كما اعتمد نظاماً سياسياً قائماً على الأحادية الحزبية على غرار الأحزاب الشيوعية المهيمنة على الدولة، إلا أنه لم يكن يخفي أن نموذجه في التحديث الصناعي هو التجربة اليابانية، التي كانت أوانها تجربة النهوض الصناعي الوحيدة القائمة خارج المنظومة الغربية. كان "بومدين" يرى أن القاعدة التنموية والاقتصادية هي الدعامة الضرورية لبناء دولة جزائرية حديثة، في حين اختصر المنفذ السياسي في حزب "جبهة التحرير الوطنية" التي أرادها إطاراً لائتلاف المؤسسة العسكرية والبيروقراطية المسيرة للشأن العام. فشلت تجربة التصنيع الثقيل، وعجزت البنية التقنية عن أداء أدوارها فلم تتجاوز طاقة اشتغالها ثلاثين بالمائة في أحسن حالاتها، ونتج عن انهيار هذه البنية الصناعية أزمة اجتماعية خانقة وصلت أوجها في انتفاضة أكتوبر 1989، التي كانت إعلانًا مدوياً لفشل التجربة التحديثية الجزائرية. وعلى إثر فشل التجربة، انهار العقد السياسي بين الجيش والبيروقراطية الإدارية، وقامت تجربة انفتاح سياسي متعثرة انجرت عنها فتنة داخلية دامية طويلة لم تخرج الجزائر منها بعد. في تونس، اعتمد بورقيبة منذ وصوله للسلطة عند استقلال البلاد 1956 مسلك التحديث الثقافي والاجتماعي، معتبراً أن تغيير العقليات وتطوير بنيات التنشئة التربوية والثقافية للفرد التونسي شرط أولي لبناء الدولة وتكريس قيم المواطنة، رافعاً شعار إعادة بناء الإنسان التونسي. كان بورقيبة سياسياً محنكاً واسع الثقافة، لم تستقطبه- على عكس جيله- الأفكار الاشتراكية الثورية، بل كان متشبعاً بأفكار التنوير الأوروبي والإيديولوجيات الليبرالية العلمانية والفلسفات الوضعية. ولقد اعتبر أن للتحديث مسلكاًَ واحداً لا محيد عنه هو التجربة الأوروبية التي قامت على إزاحة الدين من الشأن العام واستبدال "المعتقدات الغيبية" بالقوانين والنظريات العلمية، وزحزحة النظام الاجتماعي عن طريق التشريعات الضامنة للمساواة بين الجنسي. كان النموذج الأتاتوركي حاضراً بقوة في ذهن بورقيبة الذي أصدر منذ سنة 1956 مدونة للأسرة أزاحت كل القيود عن المرأة التونسية، كما ألغى التعليم الزيتوني الديني والأوقاف، واعتمد إصلاحات تربوية على منوال النظام التعليمي الفرنسي، وذهب إلى حد المطالبة بالإفطار في رمضان بذريعة "جهاد البناء"، وشكك علناً في بعض المعتقدات الإسلامية. لم يكن بورقيبة الذي أعلن نفسه عام 1975رئيسًا لتونس مدى الحياة مجرد حاكم، بل كان يقدم نفسه مصلحاً اجتماعياً ومجدداً للدين وأباً مربيا للتونسيين يعلمهم في خطبه المذاعة يومياً أساسيات وشكليات السلوك من الأكل واللباس إلى الأفكار والنظريات الحديثة. ومن هنا اعتمد بورقيبة نظاماً سياسياً أحادياً ألغى التعددية الحزبية ومنع نشاط المعارضة، قبل أن تنهار التجربة تحت وطأة الأزمة الاجتماعية الخانقة (انتفاضة الخبز 1984) وتتم تنحية الزعيم العجوز المريض سنة 1987. أما المغرب الحديث فقد اختار منذ بدايات الاستقلال نظام التعددية السياسية أفقاً للتحديث الاجتماعي والمؤسسي، في سياق العقد الذي كرسته "ثورة الملك والشعب"(1953)، التي كرست الحلف القوي بين الملك "محمد الخامس" والقوى الوطنية. وعلى الرغم من الأزمات العديدة التي عرفتها الساحة السياسية في الستينيات والسبعينيات، فإن المغرب كان البلد العربي الوحيد الذي اعتمد منذ دستور 1961 خط التعددية الحزبية الذي تحول إلى خيار ثابت ومعطى دائم من معطيات الحقل السياسي منذ انتخابات 1975 التي تلت تطبيع العلاقات بين المؤسسة الملكية وأحزاب المعارضة اليسارية. كان الملك الراحل الحسن الثاني رجل قانون من الطراز الأول، تعلم على يد كبار الفقهاء الدستوريين الفرنسيين، وكان يعي بقوة ضرورة إعادة بناء المؤسسة الملكية التي لا نزاع حولها في المغرب، ولقد حرص- كما يقول عبد الله العروي - على أن يحمل البنية الدستورية الشرعية المزدوجة الإسلامية التقليدية المبنية على البيعة والحديثة المبنية على التعاقد الحر، معتبراً أن التحديث هو قبل كل شيء خيار سياسي ومسلك دستوري يؤسس لدولة حديثة قوية قابلة لقيادة عملية التنمية. عرف مسار التحديث المغربي هزات، لكنه أفضى إلى مكاسب نوعية تستحق وقفة تحليل واعتبار في المشهد العربي الراهن.