أعلن الأسقف الجنوب أفريقي الشهير دزموند توتو، أنه لن يصوت مرة ثانية للمؤتمر الوطني الأفريقي الذي يحكم دولة جنوب أفريقيا، معللاً ذلك بانتشار الظلم والعنف والفساد والإخفاق في إدارة الدولة، موضحاً أن نجاحهم في النضال ضد التفرقة العنصرية فيما سبق، لم يرافقه نجاح في إدارة الحكم. ووصف توتو جنوب أفريقيا بأنها "أقل مجتمعات العالم تكافؤاً"، بسبب استشراء الفساد وغياب المساءلة وضعف التقيد بالدستور. ويضيف توتو أنه "من المؤلم جداً لي أن أرى بلادنا تتدهور وتنزلق ببطء قبالة ما كنا نظن أنها أمور تتعارض وأخلاقنا وقيمنا العالية". إن ما يصفه توتو مقارب إلى حد كبير لما يمكن أن نراه اليوم في عدد من الدول العربية التي أسقطت حكامها، وغيرت أنظمتها السياسية، ومشابه إلى حد كبير لما عرفته الفلبين قبل أكثر من ربع قرن وما عرفته رومانيا مع تشاوسيسكو. لم تزل تلك الدول تعاني حتى اللحظة هذه من الفساد والعنف وسوء الإدارة. وبالعودة إلى جنوب أفريقيا، فإنه من المؤلم أن توتو وهو رفيق درب نيلسون مانديلا، كان قد بلغ به الألم في انتخابات 2009 حداً دفعه إلى أن يدعو للصلاة ضد فوز المؤتمر الوطني الأفريقي. وربما هي المشاعر نفسها التي تجتاح الآن بعضاً من أولئك الحالمين الذين كانوا ينثرون الوعود ويلاحقون السراب في أكثر من بلد عرف أحداثاً مشابهة. لماذا تسعى وسائل الإعلام إلى رسم صورة وردية في بدايات الثورات، ولكنها تتجاهل دائماً وتسدل الستار على ما أسفرت عنه التطورات واستقرت عليه الأحوال في مجتمعات عاشت قبل عقدين أو أقل تغييراً للنظام الحاكم؟ إن دراسة مسار تاريخ الثورتين الإنجليزية والفرنسية، يؤكد أن قتل الملك وانهيار النظام السياسي لم يكن إلا بوابة الجحيم لحمام دم غرقت فيه المجتمعات لسنوات طويلة، وأن الديمقراطية والحريات التي نالتها الشعوب لاحقاً لم تكن إلا نتيجة للتطورات اللاحقة لذلك، والعنفوان الكبير والقدرة الخلاقة الحيوية على استثمار التطورات العميقة التي تعرضت لها المجتمعات، أي أن قتل الملوك ونهاية الإقطاع لم يكن إلا عاملاً واحداً ضمن عوامل متعددة ومتشابكة أدت في النهاية، بعد عقود أو قرن أو أكثر إلى نشوء الديمقراطيات في أوروبا. والأكثر إدهاشاً أنه غالباً ما كان النبلاء والتجار وأصحاب المصالح الاقتصادية هم العامل الأكبر في الاستقرار ونشوء نظام ديمقراطي، وليس الغوغاء الذين سفكوا الدماء واستباحوا كل شيء، لأن مصالح النبلاء لا تستقر ولا تنمو إلا في ظل الأمن والاستقرار والرفاه ووفرة المال، وهو ما لا تفي به الثورات والاضطرابات السياسية. كما يلاحظ أنه عقب كل ثورة، يصعد من أبنائها من يرى في نفسه الأهلية لكي يجمع في يده كل السلطات، ويمارس من الاستبداد والقمع أكبر من سابقه، وهو ما حصل مع كرومويل الذي قاد ثورة ضد تشارلز الأول أدت إلى إعدامه، وألغى البرلمان واستبد بالحكم اثنى عشر عاماً، وكذلك ما حصل مع اليعاقبة بعد مقتل لويس السادس عشر ثم مع نابليون الذي انتخبه الشعب الذي ثار ضد الملوك لكي يتوج إمبراطوراً لفرنسا! والخلاصة: إننا بحاجة إلى جرعات تثقيفية مكثفة عبر التلفزيون ووسائل الإعلام لشرح حقيقة أن ما نتج عن الثورات الكبرى التي تتخذ مثالاً وإلهاماً، هو مختلف كثيراً عما يروج له من سذاجة وعبث بالعقول، وأن حقيقة ما يجري اليوم في العالم العربي هو تدمير ذاتي وخراب للإعمار، والبديل هو التفسخ والانهيار وشبح الخوف والجوع إلى أجل غير معلوم.