«نحن نحب شيوخنا وبلادنا ولكننا مع التغيير»، عبارة اعتادت جماعات النفاق السياسي استخدامها في تناقض مفضوح لا يحتاج كبير اجتهاد لفهمه، فحب الشيوخ لا يستقيم مع رغبة التغيير التي اتخذها بعض المغرّر بهم من قبيل التقليد والأوهام الزائفة والوعود الخيالية التي منحهم إياها من يريد سوءاً بالبلاد ونهضتها، في عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. فالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيّب الله ثراه، الذي أسس الدولة على قيم إنسانية عالية تميّزت بعدم التناقض بين القول والفعل، عرف عنه أنه إذا قال فعل. ومن أهم ما قاله الشيخ زايد رحمه الله، إن الاتحاد أساس القوة، وبالاتحاد انطلقت المسيرة، وبمتانته تواصلت خطى النهضة بقفزات هائلة جعلت الحاسدين يتربصون بالنجاح، ويحاولون التسلل من مختلف الاتجاهات دون جدوى. ويبقى التناقض بين القول والفعل سبباً مباشراً في إساءة فهم الكثير من النظريات الإنسانية العظيمة، فقد زارني قبل أيام أحد الإعلاميين التلفزيونيين في دولة خليجية شقيقة ليسألني عن رأيي في مسيرة مجلس التعاون الخليجي، ربما كان يعتقد في قرارة نفسه أنني أملك موقفاً مغايراً لمواقف شعوبنا الخليجية التي تباينت تماماً في تقييمها للتجربة، رغم أن التجربة في حدّ ذاتها تعدّ عملاً إنسانياً ومجتمعياً عظيماً، فالشيخ زايد طيّب الله ثراه، عندما أطلق مبادرة مجلس التعاون الخليجي، أطلقها عن دراية وتجربة وخبرة ومعرفة، فقد رسم شكلاً تقريبياً ناجحاً حينما تولّى حكم مدينة العين، وزاده خبرة توليه أمر إمارة أبوظبي، وبعدها تجربة الاتحاد التي تعدّ من أفضل نظريات العصر الحديث، قبل أن يقوم بطرح تجربة دول مجلس التعاون الخليجي التي كان يريد لها كما صرّح في أكثر من مرة، أن تكون نواة لوحدة تكاملية عربية طوعية، تأتي بالقناعة والرغبة والنتائج الملموسة والسلم، لا بالثورات والأحقاد والدماء، غير أن بعض دول التعاون تسببت بطرق مختلفة في تشويه هذه النظرية، فنظرية التعاون التي وضعها الشيخ زايد كانت تتحدث عن تجسيد المصير المشترك، والوحدة المصيرية، والتكامل في مختلف مناحي الحياة، غير أن البعض، وبدافع الشغب السياسي والأحلام الوهمية المتعجلة، حاول التمدد، وتورّط في علاقات مشبوهة مع أعداء دول المجلس، وسعى للتفرقة، وبذر بذور الشتات بين بقية الأعضاء. إذن، مجلس التعاون الخليجي كنظرية لو تم تطبيقها التطبيق الصحيح، فإن المواطن الخليجي سيتفيأ ثماره الدائمة دون تأخير، وسيساعد على تماسك الدول المنضوية تحت لوائه، ويعمل عملاً جماعياً مشتركاً سيسهم دون شك في استقرار المنطقة والإقليم برمته، غير أن ذلك التطبيق الصارم يحتاج للكثير من المقومات الممكنة التحقيق في بعض جوانبها، والصعبة التحقيق في جوانب أخرى، ففشل مشروع العملة الخليجية الموحدة كان متوقعاً بالنظر إلى تباين المستويات الاقتصادية بين الدول، وهي خطوة جاء طرحها متعجلًا بعض الشيء، وصاحبتها وقائع سياسية جاءت نتيجة للتقلبات الكثيرة التي اجتاحت المنطقة في الربع الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن، غير أن فشل تطبيق وإقرار العملة الموحدة لدول التعاون لا يعني عيباً أو خللاً في النظرية بحدّ ذاتها، ولكنه عيب في الدراسات التي تم تقديمها بهذا الشأن، وفي ذلك التوقيت. وبالمقابل، فإن التجربة رغم فشلها في العديد من الجوانب إلا أنها ظلّت صامدة طول هذه السنوات، وهي من أصعب السنوات التي مرّت على العالم من ناحية المتغيرات والتغييرات، وبدأ تفعيل التنقل بين دول مجلس التعاون الخليجي للمواطنين الخليجيين عبر بطاقات الهوية، في مراحله الأولى، وربطت العديد من شبكات الطرق بين دول التعاون، كما طبّقت الدول الخليجية مبدأ الامتيازات الممنوحة لمواطني مجلس التعاون في مختلف دوله، فهناك تسهيلات في ممارسة نشاطهم الحياتي والعملي والاستثماري، وهناك أولوية لهم في التوظيف، وما إلى ذلك من مزايا أخرى صبّت في مصلحة المواطن الخليجي. التنسيق الأمني بين دول التعاون، رغم عدم وصوله درجة الرضا التام إلا أنه خطا خطوات حثيثة مكّنت من صناعة حالة الاستقرار الاستثنائي الذي تشهده دول التعاون، وهو مفصل تحدّ السيطرة عليه من تهريب العديد من الأشياء المسببة للضرر الاجتماعي بين الدول، كالمخدرات وكثير من البضائع الاستهلاكية المغشوشة والضارة، ويقي الدول شرّ الكثير من المشاكل الاجتماعية والمجتمعية. نظرية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، بدأت بالصدق في القول واتباعه مباشرة بالفعل، وقد علّمنا نحن في دولة الإمارات العربية المتحدة، أن حبنا لبعضنا هو أساس النجاح، وعدم اختلافنا هو صمام الأمان لدولتنا، وعدم تفشّي الحسد بيننا هو الضامن الوحيد للمحافظة على نهضتنا، وأن دعم بعضنا بعضاً هو المحك، بينما كيد الدسائس لبعضنا، وظهور أحدنا بوجه معين أمام الآخرين، ووجه آخر من ورائهم ليس من الوطنية في شيء، ولا يؤدي سوى إلى الفشل، وهي ذات القواعد التي وضعها في نظرية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فظهور بعضها بوجه أمام الدول الأخرى، وبوجه آخر من ورائها، يبقى كحال من يصافح باليد اليمنى، ويخبئ وراء ظهره سلاحاً غادراً في يده اليسرى، وهو ذات الحال الذي لا يزال يعيق مسيرة المجلس، للدرجة التي طالب فيها بعض الشباب الخليجيين من الحادبين على الوحدة الخليجية في بعض تغريداتهم على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» بإجراء حيال الدول المعيقة لمسيرة المجلس، وهو ما يعكس مدى تمسّك المواطن الخليجي بالوحدة الخليجية الكاملة، ومدى ضيقه وتبرمه من كل محاولات استهداف التجربة. وتبقى نظرية مجلس التعاون الخليجي كنظرية إنسانية عظيمة تحتاج الكثير من القراءة الجيدة، والفهم العميق، ويجب إسقاطها على كامل التجربة القائمة حتى نتمكن من تطبيق ما أراده مؤسس دولتنا طيّب الله ثراه، وإصلاح كل نقاط الخلل التي تسبب فيها من حاول حرف كل ما قاله ووضعه الشيخ زايد عنها.