خلال الفترات السابقة، هذه السياسات التي ادعت نشر الديمقراطية لتتخذ في النهاية شكل التدخلات العسكرية الفجة وغير الموفقة. وبالطبع يحتد النقاش اليوم حول إمكانية التدخل العسكري في الحرب الأهلية الجارية في سوريا، وإن كان السؤال المطروح حالياً هو: بأي هدف ستتدخل أميركا؟ هل الأمر يتعلق، كما تردد أميركا دائماً بنشر الديمقراطية؟ وهل هذا الأمر ممكن اليوم في سوريا من الناحيتين السياسية والعسكرية؟ وما هي المساهمة التي سيقدمها الانخراط الأميركي في الموضوع السوري عسكرياً، والتي يتساءل بشأنها العديد من الأميركيين بالنسبة للتهديد الإرهابي داخل أميركا؟ هل هناك علاقة بين الجانبين، أم أن الأمر منفصل؟ وبالعودة إلى جذور الثورة السورية نجد أنها بدأت كانتفاضة سلمية ضد تجاوزات نظام تهيمن عليه عائلة الأسد العلوية، كسلطة ديكتاتورية تمتعت طيلة السنوات الماضية بدعم الأقليات الدينية، بالإضافة إلى الجماعات العلمانية، فيما تتمحور المعارضة حول الأغلبية السنية بما فيها «الإخوان المسلمون» وبعض التنظيمات الجهادية التي تحارب الحكومة المدعومة إقليمياً من قبل إيران ودولياً من روسيا والصين. والمفارقة أن التدخل الأميركي في سوريا يجعلها متحالفة مع الجماعات ذاتها التي تحاربها في أماكن أخرى، وهو منطق غريب يصعب الدفاع عنه داخل الولايات المتحدة وتسويقه داخلياً. ولأن مشكلة سوريا لها أبعاد إقليمية، فقد بدأنا نشهد مؤخراً تمددها إلى لبنان، وانجرار جماعات لبنانية إلى الأتون السوري، فيما إسرائيل من جانبها لا تستبعد الانخراط في المعمعة السورية لضرب «حزب الله» والتصدي لإيران. ومرة أخرى لا مصلحة لأميركا في توسع الحرب، لاسيما وأن واشنطن تركز على الاستقرار الذي تريد عودته بأسرع ما يمكن إلى المنطقة حتى تهتم أكثر بانتقالها الاستراتيجي نحو آسيا. ورغم أن إيران لن تجرؤ على استخدام السلاح النووي -في حال اكتسبته- ضد إسرائيل، مخافةَ التعرض للدمار الشامل والاختفاء من الخريطة كلياً، فإن إسرائيل تصر على تبرير رغبتها في فتح جبهة ضد إيران بالخطر الوجودي المحتمل الذي تمثله طهران، وهو ما ينعكس على الساحة السورية، حيث يسعى كل طرف إلى إحراج الآخر. وبما أن اللجوء إلى حرب نووية في المنطقة، حتى لو امتلكت إيران السلاح النووي، يبقى أمراً مستحيلاً وعبثياً، ستستمر الحرب في سوريا لفترة ممتدة تغذيها الأسلحة التقليدية التي تتدفق على أطراف النزاع لتعكس أيضاً الصراع الإقليمي الدائر على السلطة والنفوذ في الشرق الأوسط بين أهم قوتين في المنطقة: إيران وإسرائيل. هذا الصراع سيتخذ أشكالاً عدة في سوريا دون أن يرقى إلى مواجهة مباشرة، ما لم تفقد إسرائيل صبرها، وتقرر بضوء أخضر أميركي شن هجوم جوي على إيران لتدمير منشآتها النووي، بل وتخطي ذلك لضرب إمكاناتها الصناعية، لأن الصراع الحقيقي في المنطقة ليس جوهره السلاح النووي بقدر ما هو القوة الإيرانية، واحتمال منافستها لإسرائيل في بسط الهيمنة على المنطقة. وفي حال تفجّر الصراع على نحو مباشر مع إيران، ستتدخل أميركا لتبرير ذلك بالقول إن الحرب الإسرائيلية على إيران تندرج في إطار محاربة الإرهاب والتطرف ونشر عدم الاستقرار. والمفارقة أن هذه الأمور نفسها تشجعها أميركا من خلال الطائرات من دون طيار التي تحلق في سماء اليمن وباكستان والصحراء الكبرى. وهذا كله يجري فيما تخوض الولايات المتحدة حرباً ممتدة في أفغانستان ضد «طالبان»، الأمر الذي يزيد من عداء التنظيمات الجهادية المختلفة التي يوحدها الاستياء من أميركا وتجنيد الأنصار لمحاربتها. وإذا أضفنا الحرب الأميركية في أفغانستان، مع ملاحقتها المتواصلة للإرهابيين في شتى أنحاء الشرق الأوسط، واستخدامها الطائرات من دون طيار، فإننا نكون أمام واقع يبرر ما يذهب إليه بعض الأصوليين الإسلاميين في المنطقة من أن أميركا تشن حرباً صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، كما يستدعي إلى الواجهة خطاب هينتجتون حول صراع الحضارات. ولعل ما يزيد من تدعيم ذلك الرأي هو التوسع الإسرائيلي المتنامي في الأراضي الفلسطينية، واقتراب التمدد الإسرائيلي من ابتلاع القدس كلياً وضمها إلى الدولة العبرية. ورغم محاولات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إطلاق عملية السلام الميتة مرة أخرى وبعثها من جديد، يبقى من غير المرجح أن تفضي المحاولات إلى نتائج ملموسة. فقد جرّب الفلسطينيون منذ عام 1993 عندما انطلقت عملية أسلو، التفاوضَ مع إسرائيل دون جدوى، ولم يجدوا أمامهم سوى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتأكيد وضعهم كدولة واقعة تحت الاحتلال عندما اعتُرف بها كدولة غير عضو. وحتى هذا الاعتراف البسيط ثارت ضده الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان لم تقبلا تعاطف دول العالم مع محنة الفلسطينيين وتطلعاتهم الوطنية. والأكيد أن الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، تحاولان اليوم بعث الوعود الكاذبة بشأن فلسطين لتعويم القضية حتى تمر الاضطرابات التي تعصف بالشرق الأوسط وتتضح الصورة، لاسيما في ظل نذر الصراعات والتدخلات العسكرية المحتملة التي ترخي سدولها على المنطقة. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "ميديا تريبيون سيرفسز"