عندما يفوق احتمال موت الأطفال الأميركيين بسبب حوادث السيارات، أو استخدام مواد ضارة أو طلقات الأسلحة ما عداه، وعندما يكون تلوث المياه والأطعمة سبباً في إصابة الأميركيين بالأمراض، وعندما تهدد الكوارث الطبيعية بتحويل المزيد منهم إلى «لاجئين مناخيين»... فما السبب الذي يدفع الحكومة الأميركية للاهتمام المفرط بأخطار وتهديدات تلوح في الأفق البعيد، بدلاً من الاهتمام بحقائق الواقع الماثل؟ تلك الأسئلة وغيرها يطرحها ميلفين جودمان، المحلل السابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي.آي.إيه)، في كتابه الذي نعرضه هنا «انعدام الأمن القومي... تكلفة النزعة العسكرية الأميركية». يتفحص جودمان سجلات التاريخ الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية، باحثاً عن إجابة لأسئلته، وهو يجد هذه الإجابة في كلمة واحدة هي «العسكرة»، وهي تعريف مختصر لمعنى أكبر هو الاستثمار المتنامي في الاعتقاد بأن القوة العسكرية هي الأداة الأفضل لتوفير الأمن القومي، وبأن أفضل ممارسة للسياسة الخارجية الأميركية هي تلك التي تتم عن طريق البنتاجون. ورغم أن الرواية الأساسية التي يقوم عليها الكتاب، قد حُكيت من قبل بواسطة عدد من القادة العسكريين ورجال الاستخبارات السابقين، فإن ما يضيفه المؤلف في هذا الكتاب، هو تركيزه على «عسكرة الاستخبارات» تحديداً. فـ«الاستخبارات المعسكرة» كانت ذات أهمية كبيرة في تأكيد أن التهديدات الوجودية الدائمة للولايات المتحدة تقع فيما وراء البحار والمحيطات، ما يتطلب ميزانيات عسكرية ضخمة، وخوض حروب متكررة. ويذكر المؤلف نماذج من الأوهام الاستخباراتية، مثل كعكة اليورانيوم الصفراء التي قيل إن صدام حسين حصل عليها من النيجر، رغم أن ذلك لم يكن صحيحاً. كما يذكر المزاعم الزائفة حول النمو المتواصل في القوة السوفييتية الجبارة في الثمانينيات، بينما كانت مظاهر الخلل تنخر في بنيانها الذي أصبح آيلاً للسقوط. ويقول إن تلك الأوهام الاستخباراتية كانت المسوغات التي اعتمدت عليها إدارات جونسون لإطالة الحرب في فيتنام، وريجان للاستمرار في مشروع حرب النجوم، وبوش الابن لغزو العراق. وقد بلغت الخسائر البشرية في الحروب التي خاضتها أميركا بسبب إساءة استخدام أجهزة الاستخبارات، وحرفها عن مهمتها الحقيقية، عشرات الآلاف من الضباط والجنود الأميركيين، بالإضافة إلى ملايين العسكريين والمدنيين من الفيتناميين والعراقيين. ورغم أن الكاتب قدّم عرضاً وافياً للأحداث والوقائع التي أدت لذلك الحصاد الدامي، فإن تركيزه انصب على تأثيرات ذلك في مجال تخصصه بالدرجة الأولى. والمؤلف ينعي فقدان الرؤية التي يفترض توافرها دوماً في مجتمع الاستخبارات، والضرورية لمهمته المتمثلة في تزويد صناع السياسة بالحقائق الموضوعية حول ما يقوم بعمله اللاعبون الآخرون على المسرح الدولي. وهو يركز بشكل خاص على التأثير السيئ للعسكرة على السياسة الخارجية، وكيف قادت، بسبب أوهام القوة التي ترتبت عليها، لرفض الولايات المتحدة التوقيع على الاتفاقات الدولية الخاصة بالحد من الحرب أو الأسلحة الفتاكة، وهو ما أدى لتنفير العالم من الولايات المتحدة مع غيرها من الدول المفرطة في العسكرة، وإن كانت على مستوى أقل بكثير، مثل كوريا الشمالية وإيران. ويذكر الكاتب أمثلة عديدة يكشف من خلالها كيف أن نزعة القيادة الأميركية السياسية في بعض الأحيان للتوقيع على اتفاقات للحد من الأسلحة، أو إجراء مزيد من الاستقطاعات في الميزانية الدفاعية، كان يتم إحباطها دائماً من قبل البنتاجون. ويركز المؤلف على أكلاف أخرى تكبدتها أميركا بسبب الإفراط في العسكرة، منها مثلاً انخفاض استثماراتها في العديد من مجالات التقدم باستثناء مجال واحد يجعلها تبقى كأكبر قوة عسكرية في العالم. ومن الأكلاف الأخرى «المؤسفة» حسب وصفه انخفاض توقعات العمر، وازدياد نسبة المساجين، وتقلص أعداد الطلاب الجامعيين، والانخفاض التدريجي في نفقات البحوث والتطوير، وانخفاض معدلات الادخار للأسرة الأميركية، والزيادة الحادة في اللامساواة الاجتماعية. تلك العلل والأمراض، في نظر الكاتب، كان لابد أن تؤدي إلى تآكل القدرة على المنافسة في السوق العالمي، كما أن تضخم الميزانية العسكرية أدى إلى انخفاض في نوعية الحياة الأميركية، وهو تضخم ناتج عن اعتقاد خاطئ بقدرة القوة على جعل العالم مكان أكثر أمناً، بينما تثبت كافة الأمثلة، من العراق وحتى أفغانستان، أن العكس هو الصحيح. سعيد كامل الكتاب: انعدام الأمن القومي... تكلفة النزعة العسكرية الأميركية المؤلف: ميلفين جودمان الناشر: سيتي لايت بابليشر تاريخ النشر: 2013