قام وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري بزيارتين لأنقرا منذ تولي منصبه في يناير الماضي، عاكساً بذلك الأهمية البالغة للدور الذي تلعبه تركيا في الشرق الأوسط الكبير والبحر المتوسط والقوقاز. فعلى مدى السنوات العشر الماضية، انتقلت تركيا من دور الدولة الناشز في أوروبا، لتصبح في موقع بارز مجدداً ولتطلع بدور لاعب رئيسي في منطقة هيمنت عليها ذات يوم عندما كانت إمبراطورية عثمانية. وحتى عام 2011، حافظت السياسة التركية على مسار ناجح، حيث كانت تقيم علاقات جيدة مع معظم دول المنطقة، بما في ذلك إيران وسوريا، وإن استثنت إسرائيل. واستمر ذلك حتى اندلاع الحرب الأهلية في سوريا التي غيرت كل شيء: فتركيا تجد نفسها الآن مثقلة بأعباء وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين على أراضيها، وهو ما كلفها حتى الآن قرابة 800 مليون دولار في صورة إعانات إغاثة، كما تسبب في حدوث ردات فعل كبيرة في المدن والقرى القريبة من الحدود السورية. وبسبب الأزمة، ومذابح النظام السوري ضد شعبه، دعا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أرودغان لتنحي بشار الأسد عن الحكم. وكان المتوقع أن يؤدي تفاقم الأزمة في سوريا والضغط الخارجي على نظامها إلى سقوطه، لكنه أثبت أنه أكثر صلابة مما كان متوقعاً. والفوضى العارمة المستمرة في سوريا، لا تهدد تركيا فحسب بل كافة الدول المجاورة لها. وبالإضافة لسوريا تهتم تركيا اهتماماً خاصاً بتطورات الأوضاع في العراق؛ فقد عارضت الغزو والاحتلال الأميركي عام 2003، وكانت تأمل في تكوين علاقة طيبة مع الحكومة العراقية، بيد أن الذي حدث هو قيامها بتكريس جل جهودها للعمل بشكل وثيق للغاية مع حكومة إقليم كردستان شبه المستقلة في شمال العراق. ليس هذا فحسب، بل عملت على التصالح مع «حزب العمال الكردستاني» (بي.كيه.كيه) من خلال التفاوض مع قائده عبد الله أوجلان المعتقل في سجونها، وإقناعه بإصدار بيان أدى لاتفاق وقف إطلاق نار بين مقاتلي الحزب والجيش التركي. ومن بين خسائر تركيا جرّاء الحرب الأهلية السورية، تراجع علاقتها مع إيران. فمن المعروف أن أنقرة أقامت قبل «الربيع العربي» علاقات ودية مع طهران، وصلت لحد توسطها لإبرام صفقة مع البرازيل لحل الأزمة النووية الإيرانية في عام 2010 وإن لم يقدر لها النجاح. أما في الوقت الراهن، فهناك شكوك تنتاب تركيا بشأن نوايا إيران، وحول ما إذا كانت قد نجحت بالفعل في تطوير برنامج لتصنيع السلاح النووي، وهي شكوك تدعم آراء جماعات معينة في تركيا تدعو إلى احتذاء حذو إيران في حالة ما إذا كانت الأخيرة قد تمكنت فعلاً من تطوير برنامج نووي. ومن التطورات الإيجابية -من المنظور الأميركي- تحسن علاقة تركيا مع إسرائيل. فعقب زيارة لتل أبيب اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو هاتفياً بنظيره التركي أردوغان وقدّم له الاعتذار عن الهجوم الذي قامت به قوات خاصة إسرائيلية ضد سفينة المساعدات التركية «مافي مرمرة» أثناء إبحارها نحو قطاع غزة المحاصر عام 2010. ورغم أن الدولتين ستستعيدان العلاقات الدبلوماسية بينهما، إلا أن تلك العلاقات لن تكون وثيقة مثلما كانت في السابق، عندما كان الجيش التركي يلعب دوراً أكبر في السياسة التركية. وتواجه تركيا أيضاً مشكلات في حوض البحر المتوسط، حيث لم تتمكن حتى الآن من إيجاد حل لأزمتها مع الاتحاد الأوروبي حول قبرص، ولا لنزاعاتها الحدودية المستمرة مع اليونان. وهذا أمر يؤسف له في الحقيقة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار اكتشافات الغاز الطبيعي الهائلة في تلك المنطقة، والتي مكنت إسرائيل من استخراج كميات ضخمة منها وطرحها في الأسواق، وهي كميات يمكن زيادتها بدرجة كبيرة فيما لو تم حل النزاعات الإقليمية بين دول المنطقة، وحذت تلك الدول حذو إسرائيل. وسوف يكون منطقياً إذا ما قامت إسرائيل بضخ الغاز في أنابيب إلى تركيا، بدلاً من تطوير مشاريع خاصة لتسييل الغاز وتصديره للأسواق العالمية. ومن العوامل الأخرى المساهمة في تعقيد الأوضاع في تلك المنطقة، الأحاديث المتكررة من جانب لبنان حول تعدي إسرائيل على مياهه الإقليمية، رغم أن الحكومة اللبنانية في اللحظة الحالية، منقسمة على نفسها من جهة، وبينها وبين سوريا تعقيدات من جهة أخرى لدرجة لا تمكنها من سوى من عمل القليل للتأثير على تطورات الأوضاع في شرق المتوسط. وفيما يتعلق بأوروبا والولايات المتحدة، نجد تركيا نفسها الآن أقل اهتماماً بالانضمام للاتحاد الأوروبي مما كانت عليه قبل بضع سنوات، وإن ظلت على رغبتها في الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة. وهذا ينعكس ليس فقط في تعدد زيارات كيري لأنقرة، وإنما في أيضاً في تردد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو على واشنطن بمعدل زيارة كل شهر ونصف شهر تقريباً، لإجراء مشاورات حول العديد من القضايا. ومن ناحية أخرى، أقامت تركيا علاقة عمل جيدة مع روسيا، الدولة التي خاضت ضدها حروباً عديدة في الماضي. ويعود سبب هذه العلاقات الجيدة إلى العوامل الاقتصادية في المقام الأول، حيث حققت المشروعات التركية نجاحات متميزة في روسيا، كما قامت موسكو من جانبها بتزويد تركيا بكميات ضخمة من الغاز الطبيعي. كل ذلك يبين أن مفتاح نجاح أردوغان هو الاقتصاد التركي الذي تمكن، على العكس من الاقتصادات الأخرى في الدول المجاورة، بما في ذلك الدول الأوروبية، من تحقيق نمو منتظم على مدار العقد الماضي. فالرخاء الاقتصادي الذي حققته تركيا هو ما يعطي أردوغان شعبيته. وفي الوقت ذاته، تستمر تركيا في التحول كي تصبح أكثر إسلامية، على رغم إنكار المتحدث الرسمي باسم الحكومة التركية وجود نية لتغيير الطبيعة العلمانية لدستور البلاد. وإذا ما كان الأمر هكذا بالفعل، فسوف يستمر النظر لتركيا على أنها دولة نموذج يشير إليها الغرب باعتبارها الوجهة التي يرغب في تحول بقية الدول الإسلامية في المنطقة نحوها، في نهاية المطاف. وفي النقطة الحالية من الزمن، يبدو هذا التطور غير محتمل الحدوث.