ذهب «التكريتي» في كتابه «الهندسة النفسية»، وهو يشرح النظرية الجديدة حول البرمجة اللغوية العصبية (NLP) إلى أن الحقيقة مشوهة ومشوشة للغاية؛ بدءاً من التقاطها بالحواس، مروراً باستيعابها في الدماغ، وانتهاءً بإفرازها نطقاً باللغة. واللغة فيها ثغرات مخيفة ومحشوة بالمبالغة والتشويه وعدم الدقة، لكن لا مفرّ من اعتمادها للتواصل الإنساني. واعتبر محمد عنبر في كتابه «جدلية الحرف» أن كل الحقيقة مختبئة في تضاعيف الحرف، والكلمة بذاتها تعطيك الحقيقة بمجرد نطقها. ولو اكتشفنا اللغة الأساسية التي نطق بها البشر لوضعنا أيدينا على الحقيقة النهائية. لكن لا وجود للغة أصلية موحدة نطق بها البشر. ويعرف علماء الألسنيات اليوم أن الكلمات لا تحمل المعنى، بل نحن الذين نشحنها به، والمجتمع هو من يمنحنا اللغة كما يمنحنا الجينات. وانتبه ابن خلدون إلى خديعة الألفاظ، فأوصانا بأن ننطلق بالفكر إلى سماء المعاني لنقنص الحقيقة، ثم نغلفها بالثوب المناسب من الألفاظ. وأوضح العالم «سومرست موم» أن العلم كائن متقلب، ولذا فعبّاده في حالة ترقب وحذر، وهو كلام يمثل نصف الحقيقة، إذ ينمو وفق آلية خاصة به من التراكم والحذف. أين الحقيقة إذن؟ وأين العلم؟ يظن البعض أن «العلم» هو العلم «الشرعي» والذي لا علاقة له بعلوم الفضاء والفيزياء الذرية والانثروبولوجيا. ولمواجهة العصر فإن كتباً مثل «عارضة الأحوذي في شرح الترمذي» كافية لاستيعاب صدمة المعاصرة، وهذا جهل بالعلم والعلم الشرعي والتاريخ معاً. أما «سيد قطب» في كتابه «معالم في الطريق»، فيعتبر أنه لا توجد حضارة خارج الإسلام، ولا حرج في الانفتاح على العلوم التطبيقية، لكن من دون تفسيراتها الفلسفية. وهذا يقود إلى خطأين: منع دراسة العلوم الإنسانية، من تاريخ وفلسفة وعلم نفس واجتماع... لأنها تخضع لـ«روح جاهلية»! ودراسة العلوم التطبيقية دون الالتفات لتفسيراتها الفلسفية! وذهب عبد الرحمن بدوي في آخر كتبه، وهو يضع خلاصة أفكاره، إلى أن العالم العربي نهض من خلال اتصاله بالفكر اليوناني مع حركة الترجمة في العصر العباسي فانطلق العقل. وحسب أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» فإن إحدى الكوارث في التاريخ الإسلامي كانت تسلط تيار «أهل السنة والجماعة» ومحاربة المعتزلة والتيار العقلي. وهو يرى أن التيارين يشبهان حزبي «الأحرار» و«المحافظين»، وأنه كان بالإمكان أن يتعايشا ويعدل أحدهما الآخر. ولو حصل ذلك لتدفق التاريخ الإسلامي في مجرى مختلف. أما أبو حامد الغزالي، فاعتبر في كتابه «المستصفى في أصول الفقه» أن انتقال الحقيقة الموضوعية الخارجية إلى تصور ذهني هو العلم، لكنه قول يحتاج إلى دليل ولم يختلف الناس ويتقاتلوا مثل اختلافهم حول تمثيل الحقيقة؟ بيد من هي؟ ومن يملكها؟ ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد. ويمكن بلورة الموضوع على الشكل التالي: أولا: «العلم» ليس العلم «الشرعي»، وإن كان الأخير يدخل في دائرته. ثانياً: العلم حيادي، وعلينا أن ننسى أسطورة «أسلمة المعرفة»، فليس هناك علم بوذي، وآخر بروتستانتي. ثالثاً: العلم ينمو في حركة دينامية، ويكبر بالحذف والإضافة ولا يعرف التوقف والجمود. رابعاً: الوجود مكون من خمس حقائق: المادة، والطاقة، والزمان، والمكان، والقوانين، وسنن الكون لها ست صفات: النوعية، والشمولية، والثبات، والتراكب، والتسخير، والاحتمالية. وقوانين المادة غير قوانين الحياة. يقول مالك بن نبي، إن حظوظ الإنسان في الدنيا مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه.