في الماضي لم يكن أحد يجرؤ على الكلام باللغة العربية في تركيا، واليوم تسمع مسؤولين حكوميين يتكلمون العربية بل ويفتخرون بأنهم يجيدونها. والاعتزاز بالتاريخ العربي والإسلامي في الخطاب الرسمي التركي أصبح واضحاً، وهو أمر جديد جداً ومعاكس لما كان؛ ففي الجمهورية التركية السابقة لم تكن هناك رغبة في ذكر الماضي أصلاً، فضلاً عن الاعتزاز به أو تقديره. الدولة التركية الجديدة غيرت اتجاه بوصلتها؛ فبعد عقود طويلة من الاتجاه نحو أوروبا والغرب، تعود تركيا إلى محيطها العربي والإسلامي، وبحماس واضح جداً، وتقدّم نفسها كدولة محورية في المنطقة تتميز بعلاقات جيدة مع محيطها الإقليمي، ولديها قدرة جيدة على التعامل والتفاهم مع الحكومات الغربية، كما يمكنها لعب دور الوسيط لحل المشكلات المختلفة، وتقديم نفسها كدولة ديمقراطية ناجحة تتميز باقتصاد قوي واستقرار على جميع المستويات. المسؤولون الأتراك يقولون إنه ليس في السياسة الخارجية التركية أية خطة لاستدعاء التجربة العثمانية، ويؤكدون على ذلك، لكن من الواضح على الأرض، ومن ممارسات حكومة أردوغان أن هناك -على الأقل- حنيناً إلى الزمن العثماني. تركيا تُصلح وضعها الداخلي وتعيد ترتيب أوضاعها وتعمل على إنهاء مشكلاتها الداخلية، وهي تنفتح على جيرانها العرب وغير العرب. تركيا تتغير وتعود إلى ماضيها، وهي تقدّم سنوياً مليارات الدولارات كمساعدات إنسانية ودعم ثقافي لدول المنطقة ولدول مختلفة في العالم. صحيح أن أغلبها يذهب للدول الإسلامية، إلا أن جزءاً منها يذهب إلى دول غير إسلامية. كما أن تركيا رصدت ميزانيات ضخمة للإعلام، وجزء من هذا الإعلام موجّه إلى الخارج ومنه الدول العربية، فهناك قنوات فضائية تركية باللغة العربية، ومواقع إلكترونية تركية باللغة العربية، فضلاً عن المسلسلات التركية المدبلجة التي وجدت لها سوقاً كبيرة جداً في المنطقة العربية. وبلا شك فإن هذا التوجه التركي ليس عشوائياً، لكنه يأتي ضمن خطة مدروسة، وهي خطة معلنة وليست سرية، تهدف إلى عودة تركيا بشكل قوي إلى المنطقة التي هي جزء منها، أي المنطقة العربية. وتبدو هذه العودة منطقية لسببين؛ أولهما استمرار رفض دول أوروبا انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وثانيهما الفراغ السياسي الكبير الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط بعد انشغال الدول العربية الكبرى بمشكلاتها الداخلية، كمصر، وتراجع دور دول كبرى أيضاً، كالعراق وسوريا. وهذا الوضع يجعل من الوجود التركي في المنطقة سهلاً ومقبولاً للأغلبية، إن لم يكن للكل. وعندما نتكلم عن العودة التركية إلى المنطقة، لابد أن نذكر «دقيقة أردوغان» التاريخية في وجه الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في دافوس عام 2009، كانت انعطافة مهمة في كسب أردوغان للشعبية في الشارع العربي. لقد فعلها أردوغان بذكاء السياسي المحترف عندما ردّ على بيريز وترك المنصة احتجاجاً على ما دار في تلك الجلسة، فضرب عدة عصافير بحجر واحد، وهو إلى اليوم يجني ثمار تلك الدقيقة التي استغلتها القيادة التركية أفضل استغلال، ويبدو أنها ستستفيد منها لسنوات طويلة داخل تركيا نفسها وفي الشارع العربي أيضاً. منذ وصول أردوغان وحزبه إلى الحكم تغيّر الوضع في تركيا تجاه العرب، وبعد الغزو الأميركي للعراق ازداد الاهتمام التركي بالمنطقة العربية، واليوم نلاحظ الحماس التركي نحو المنطقة العربية، ويبدو أن هذا الحماس على مختلف المستويات؛ السياسي والاقتصادي، وكذلك الثقافي والتاريخي والحضاري. وهذا الحماس نحو الدول العربية يبدو مفيداً لكلا الطرفين، خصوصاً في المرحلة الحالية التي تعاني فيها المنطقة العربية من فراغات حقيقية في القرار السياسي والوفاق السياسي الذي يخدم قضايا المنطقة وشعوبها. لا يمكن أن نصف تركيا اليوم بتركيا الجديدة، فهذه ليست إلا تركيا العائدة، تركيا التي كانت على خريطة المنطقة قبل قرن من الزمان، وها هي تعود من جديد، تعود بفعل فاعل أو بحكم الطبيعة والتاريخ والجغرافيا التي تعيد إنتاج الماضي من جديد، تركيا التي كانت تشيح بوجهها عن العرب، تركيا التي كانت تهرول نحو الغرب وأوروبا وتريد أن تكون جزءاً من الحضارة الغربية... لم تعد هي التي نراها اليوم. إن لم يكن جميع أطياف الشعب التركي، فإن أغلبه أصبح متصالحاً مع العرب، أما على الصعيد الرسمي فإن لغة الخطاب أصبحت تحتوي من الحماس ما يكفي كي تكشف رغبة تركيا في العودة إلى جذورها الإسلامية، وبعد أن كانت اللغة العربية محارَبةً وممنوعة، بل يكاد يكون مُجرَّماً استخدامها، أصبحت اليوم من اللغات الاختيارية في المدارس التركية، بل وتشهد إقبالاً كبيراً على تعلّمها من قبل الجيل الجديد من الأتراك. هناك تغير حقيقي في تركيا من المهم أن يتابعه العرب ويفهموه بشكل صحيح حتى يعرفوا كيف يتعاملون معه ويستفيدون منه. محمد الحمادي كاتب وصحافي-الإمارات