في المشهد الأفغاني الذي لا يرحم، تعلمنا أننا لا يمكننا شراء أمير حرب، وإنما نستطيع "استئجاره" إلى حين، ونحن ندين بهذه المعرفة للرئيس الأفغاني حامد كرزاي. لقد تم التأكيد مؤخراً على أنه لما يزيد على عقد، ظلت ملايين الدولارات الأميركية الموضوعة في حقائب سفر، وحقائب من النوع الذي يحمل على الكتف، وأكياس مشتريات بلاستيكية عادية، تسلم شهرياً، بصفة منتظمة لمكتب كرزاي. عن ذلك يقول "خليل رومان" نائب مدير مكتب الرئيس الأفغاني خلال الفترة 2002-2005 في تصريح لـ"نيويورك تايمز": كنا نطلق على تلك الدولارات الأموال- الشبح لأنها كانت تأتي سراً وتخرج سراً". حسب النظرية الاستعمارية، فإننا غامرنا بالدخول لسلسلة جبال "هندوكوش" كي نحاول إصلاح ممارساتها وطرائقها. أما في الواقع العملي، فإن المسألة تختلف بل يمكن القول إنها قد مضت للنقيض تقريباً، فالذي يحدث في هذا الواقع، هو أن الولايات المتحدة تتعود على أساليب الشرق وطرائقه. فالبقشيش في تلك الأراضي هو سيد الموقف، ونحن نقوم بعملنا هناك وفقاً للقوانين التي يفرضها أمراء الحرب. منذ ثلاث سنوات تقريباً، أخبرنا كرزاي متفاخراً بأننا لسنا الوحيدين الذين نمنحه أموالاً عندما قال"إنهم أيضاً يعطوننا حقائب من الأموال... نعم هذا ما حدث في الواقع... ونحن ندين بالامتنان للإيرانيين على ذلك". بيد أننا يجب أن نعطي الرجل حقه مع ذلك؛ فهو لم يهمس في آذاننا بكلمات معسولة عن"الشفافية" مثلاً، كما لم يهتم باستخدام مؤسسة استشارات تعلمه، ماذا يتعين عليه قوله إلى- وعن- رعاته الأميركيين. فالحقيقة هي أن أميركا، قد باتت عالقة في بلاده، غير قادرة على أن تجد مخرجاً. وقد قام رئيسان متتاليان هما: بوش الابن وأوباما بالتودد إليه، على الرغم من أنهما كانا يعرفان أن الأمر برمته مصطنع. وحتى في الوقت الذي كانت برقيات مبعوثيهما تتحدث عن مجموعة شرهة من قطاع الطرق، وزعماء العصابات، حريصة على بقاء القوات الأجنبية في أفغانستان، مع قيامها في الوقت نفسه بالإدلاء بتصريحات علنية عن ارتباطهم بأراضيهم، واعتزازهم بسيادة بلادهم. لم يكن هناك شيء اسمه أفغانستان، يمكن أن نتحدث عنه، ومع ذلك استسلمنا لنزوات دولة ما زالت تتعلم كيف تشق طريقها في العالم، وقدمنا وعوداً بوضع القوات الأفغانية في المقدمة، في فترة مبكرة للغاية من وجودنا في هذا البلد. في قرارة نفسنا، كنا على يقين بأن هذه القوات ستذوب، وتختفي تماماً بمجرد زوال حمايتنا عنها. ليس هذا فحسب، بل إننا أدرنا وجهنا للناحية الأخرى، عندما قام كرزاي منذ أسابيع قليلة باتهام حماته الأميركيين بالتواطؤ مع "طالبان" ضد حكمه. على الرغم من احتياج الرجل الماس للمعونة الأميركية، فإنه سمح لنفسه بانتقاد الأميركيين وتوجيه الاتهامات لهم. والحق أن "كرزاي" ليس هو الوحيد الذي يجب أن يلام على ذلك، بل يجب أن يوجه اللوم للأميركيين أيضاً، الذين أسرفوا في الكرم، وحرصوا على أرضاء أمراء الحرب، وغذوا ثقافة الفساد السائدة. لقد تحدث كل من بوش وأوباما عن"مركزية" أفغانستان بالنسبة للحرب ضد الإرهاب، وذهب أوباما لما هو أبعد من ذلك، ووصف الحرب في أفغانستان بأنها "حرب ضرورة"، وهو ما كان يعني أننا يجب أن ندفع تكاليف الانتفاع بأراضي ذلك البلد. كان الرجل الذي تمكن من النفاذ لحقيقة الواقع في أفغانستان، ومآل الوجود الأميركي هناك هو"ريتشارد هولبروك، الذي وصف دور المبعوث الخاص للولايات المتحدة هناك- وهو نفسه كان مبعوثاً خاصاً- بأنه "كمن يصب الماء من دلو مليء بالثقوب"، وهو ما جعله هدفاً للسخرية في مجالس أوباما. هناك رجل آخر تحدث عن تلك الحقيقة وهو"برنارد باجوليه" السفير الفرنسي لدى أفغانستان الذي قدم خلال الآونة الأخيرة تقييماً صريحاً لواقع الأمور في أفغانستان. كان الرجل قد أنهى مهمته في ذلك البلد، وكان من المفترض أن يعود للوطن لأداء مهمة مختلفة هناك، ورأى أنه واجبه يدعوه لوصف حقيقة ما رآه. والخلاصة التي توصل إليها "باجوليه" في تقييمه هي أن المغامرة الغربية في أفغانستان "محكوم عليها بعدم النجاح". وكان من بين ما قاله "باجوليه" حول هذا الأمر أيضاً:"ما زلت غير قادر على فهم كيف أننا، والمجتمع الدولي، والحكومة الأفغانية، قد نجحنا في الوصول إلى وضع، تحدث فيه كافة الأشياء في وقت واحد: عام 2014- الانتخابات، واختيار رئيس جديد، والتحول الاقتصادي، والتحول العسكري وكل ذلك- في حين أن المفاوضات بشأن السلام في أفغانستان لم تبدأ بعد". وقال "باجوليه" في تقييمه أيضاً "يجب على القادة الأفغان تولي أمور جيشهم بشكل أكثر ظهوراً وضوحاً". وأضاف"يجب أن نكون متنبهين تماماً، وندرك أن الدولة التي تعتمد على المجتمع الدولي اعتماداً تاماً من أجل توفير رواتب جنودها وشرطتها، وتوفير الجزء الأكبر من الاستثمارات، التي تتم على أراضيها، وتعتمد عليه جزئياً في توفير نفقاتها المدنية الحالية، لا يكمن أن تكون دولة مستقلة حقاً". ما أود إضافته لما قاله هو إنه يجب أن يكون هناك قانون في الشؤون الدولية يقول: إن الحروب لا يمكن أن تخاض بناء على خلفية من اللامبالاة الشعبية. وأن الحروب ودرجة عدالتها والطريقة التي تخاض بها يجب أن تناقش ويتم الجدل والسجال حولها باستمرار، ذلك أن الحقيقة هي أننا نراوح مكاننا في جبال هندوكوش، ولا تلوح أمامنا أي مكاسب في الأفق. -------- د.فؤاد عجمي أستاذ بجامعة جون هوبكنز -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"