عُرف عن قائد الثورة الإيرانية السيد الخميني (ت 1989)، التي بدأت شعبية لا دينية، نزاهته الشَّخصية وتقشفه، فهو لم يترك شيئاً لذريته ولا يمتلك سوى بساط الصَّلاة، كان روحانياً صوفياً في سلوكه وله شعر في هذا. إلا أنه في الوقت نفسه، وبعد نجاح الثورة، عُرف بعدم تساهله في تطبيق العقيدة التي آمن بها "ولاية الفقيه" على الرغم مِن معارضة علماء كبار لها، دون ترك مجال لمناقشتها والتداول حولها، بينما كان الإيرانيون وما زالوا مختلفين عليها بأكثر مِن المناصفة، والشَّاهد ما حصل مِن انقسام حاد داخل المجتمع بين محافظين وإصلاحيين. لم يراع الخميني الثمن وهو اضطهاد علماء الدين المختلفين حولها، بالإضافة إلى الدِّماء التي سُفكت مِن أجلها. فما حصل للمرجع محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985) لا يخفى على أحد، اعتقل في داره وشُتت عنه مقلدوه، وحُرض العوام بالهتاف ضده: "شريعتمداري أصلاً حياء نداري". والمعنى أن هذا المرجع، الذي أنقذ رقبة الخميني مِن الشَّنق، في يوم مِن الأيام، صار بلا حياء! بينما عمامته، حسب التقليد الديني، هي عِمامة الإمام جعفر الصَّادق (ت 148 هـ)! وفي الصلة المعنوية بين عِمامة الصَّادق وعمائم كبار المراجع سمعت مِن صاحب عمامة سوداء، وكنا نتحدث عن المرجع أبي الحسن الأصفهاني (ت 1946)، يوم أصدر فتوى ضد أبرز خطباء المنبر الحسيني بالنجف صالح الحلي (ت 1940)، لأنه كان يتطاول على العلماء، ولما حاول البعض كسر تلك الفتوى ذهب إليه الأصفهاني فجراً ووقف ببابه قائلاً: "لم آتِ لأجلس، إنما أتيت لتذكيرك بالآتي -وأشار إلى عمامته وجلبابه وعباءته- هذه العِمامة عِمامة جعفر بن محمد (الصَّادق)، وهذا الجلباب جلباب جعفر، وهذه العباءة عباءة جعفر. إذا أنت تُريد إهانة جعفر بن محمد فأنت حرٌّ!" (أمالي السيد طالب الرِّفاعي). أكثر مِن هذا إنه في أوائل أيام الثورة الإيرانية كان يُطاف بصورتي شريعتمداري والمرجع السيد أبي القاسم الخوئي (ت 1992) في الطُّرقات بوضعهما على رأسي حمارين بغية التشهير بهما، آسف للتذكير بهذا المشهد المزري، لكنها الحقيقة، لأن الاثنين لم يشرعا ويعترفا بولاية الفقيه، بل إن الخوئي كان لديه حد فاصل بين الدِّين والسياسة! أقول: وقياساً، أليست تلك العِمامة والثياب نفسها هي التي كان يعتمرها ويرتديها شريعتمداري؟ فكيف بطشت الثورة الإسلامية به! وأليس كان يعتمرها ويرتديها الخوئي، الذي ثنيت له وسادة المرجعية بعد وفاة السَّيد محسن الحكيم (ت 1970)؟ حدثني مَن أثق باطلاعه مِن الأصدقاء الإيرانيين الذين لهم حصة في الثورة وخدمتها وتبوأ منصباً رفيعاً فيها؛ أن صدر الدِّين الحائري كان زميلاً وصديقاً للخميني لأربعين عاماً، وعاش معه في غرفة واحدة بالنَّجف، وحينها كان يناديه باسمه الأول "روح الله" بلا ألقاب، وكان البعوض كثيراً في غرفتهما، فأخذ الخميني يُخرجه بعباءته، فسأله الحائري: لماذا لا نستخدم "أمشي" (السائل المعروف في مكافحة الحشرات)؟ فأجابه: حرام قتلها إنها أرواح، نخرجها بالعباءة لا بالقتل. وبعد أن هبت الرِّياح صار الخميني قائداً للثورة ومرشداً للدَّولة، وسُجن مَن سُجن وأُعدم مَن أُعدم، أتى صدر الدِّين الحائري إلى صديقه القديم والحميم قائلاً: لماذا هذه السُّجون وهذه الإعدامات، أَما تتذكر أنك كنت تعف عن قتل البعوض فكيف وهؤلاء بشر؟ فأجابه: "لو أنت أصبحت ضد الإسلام لقتلتك". ومعلوم كم كان الخميني، مع عفته الشخصية وجلَده مع ذاته وأرحامه، قاسياً في الإصرار على استمرار الحرب مع العراق، والشَّباب بل والصِّبيان يتساقطون على وهجها، إنه لم ينس عباءته وهو يحمي بها أرواح البعوض، وأغلب الظن أنه بعد الثورة ظل على هذا السُّلوك، لا يقتل البعوض، لكن في حياته وبنفاذ ختمه قُتل الكثيرون! هنا نأتي إلى تفسير عبارة "ضد الإسلام"، هل الذين قُتلوا بعد الثورة، مِن أتباع النِّظام الشاهنشاهي أو مَن اختلفوا في تطبيقاتها، كالشيخ حسين منتظري (ت 2009)، لم يكونوا على الإسلام؟ قطعاً لا، إنما كانوا مؤمنين مصلين صائمين، ولم يكن شريعتمداري إلا مسلماً. هنا دخلت السياسة ووضعت للإسلام تفسيراً آخر، حُصر بمبادئ الخميني الثورية لا غيرها، وعندما يُسمح بهتاف ضد شريعتمداري يُسقط عنه الحياء يعني إسقاط التدين عنه، فالذي بلا حياء يُعد أمام المؤمنين بلا دين أو في أقل تقدير إنه فاسق! فإذا كان هذا مورس ضد مرجع بحجم شريعتمداري أو محمد طاهر الخاقاني (ت 1985) فما بالك ببقية المعارضين؟ كذلك الحال، عندما أعلن النظام السُّوداني تطبيق الشريعة (1984) كان أول المعدومين الشَّيخ محمود محمد طه (الجمعة 18 يناير 1985)، وربما نُفذ مع صلاة الجمعة، كي يُفهم أن الإعدام مِن أجل الله، وذلك لوقوف الشَّيخ طه معارضاً لفرض الشريعة على المجتمع، اُعدم كمرتد ولم ينظر لصلاته وصومه، لكن لم يظهر جريئاً حينها، ويقول إنه كان صواماً قواماً! فالإخواني حسن الترابي عندما سُئل عن دوره في إعدام الشيخ محمود محمد طه، وكنا في ندوة المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات بالدوحة (2012)، أجاب قائلاً: إنه اُتهم بالإلحاد فأُعدم! فإذا كان المرجع شريعتمداري يُظلم باسم الإسلام والشَّيخ السُّوداني، الذي حاول في كتابه "الرسالة الثانية..." أن يُقرب بين الإسلام والعصر، يُعدم باسم الإسلام، فأين الحق؟ ومَن كان مع الإسلام ومَن ضده؟ أيهٍ أيها الماضي الغابر، و"حتى اليوم ما برحت" وقائعك حيَّة معيشة، وما بتنا نميز بين الأزمنة. جاء في رواية أحدهم في قتل محمد النَّفس الزَّكية (145 هـ): "حضرتُ عيسى (ابن موسى بن محمد بن علي العباسي) حين قتل محمداً فوضع رأسه بين يديه، فأَقبل عليه أَصحابه، فقال: ما تقولون في هذا؟! فوقعوا فيه، قال: فأَقبل عليهم قائد له، فقال: كذبتم والله وقلتم باطلاً، ما على هذا قتلناه، ولكنه خالف أَمير المؤمنين، وشّقَ عصا المسلمين، وإن كان لصواماً قواماً. فسكت القوم"(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). ختاماً، أتينا على هذه الشَّواهد كي نوضح ما يريد الإسلام السياسي تطبيقه، فهي كلها ولايات فقهية مع اختلاف التسميات. ستقولون: أليست الثورات كافة هتكت حرمات الدَّماء؟! هذا صحيح. لكن هتكها باختصار الدِّين في عقيدة سياسية حزبية شأن آخر !