لست من أنصار مقولة تتردد أحياناً مؤداها أن الديمقراطية لا تصلح لنا نحن العرب، فالديمقراطية تطورت من خلال خبرات طويلة وعسيرة، وهي ما زالت تحظى بنقاش بين كثير من المفكرين في أوروبا، وخصوصاً من يعتقدون بأن سياسة تحالف رأس المال والسلطة هي السبب في أزمات أوروبا الاقتصادية. كما أن الديمقراطية ليست بالضرورة هي الطريق الوحيد لإحداث تطور اقتصادي واجتماعي، ولدينا أمثلة كثيرة لدول استطاعت أن تتطور دون أن تكون ديمقراطية، ومن ثم فإن للديمقراطية ثقافتها التي لا يمكن عزلها عند تطبيقها، فهي ليست فقط صناديق انتخابات كما يعتقد البعض بقدر ما هي مجموعة من القيم المصاحبة لها. وبكل تأكيد هناك علة عربية صاحبت الديمقراطية، وهي علة ثقافية تعيق تطورها، فاليوم على سبيل المثال يتقاتل أبناء العراق تحت مظلة الديمقراطية، بل إن البعض قد يرى أن حكم الديكتاتورية في فترة صدام أرحم مما يحدث في العراق. والحال أن الديمقراطية المنقولة إلى العراق تسببت في انقسامات اجتماعية عميقة لم تحدثها الحرب العراقية الإيرانية، وبمعنى آخر أن شيعة العراق لم يقفوا مع إيران لكونها دولة شيعية، فهم ينتمون إلى قبائل عربية، ويجدون في العراق الوطن الذي يستحق الدفاع، والكل يدرك تشابك العلاقات الاجتماعية بين الشيعة والسنة، وعلى رغم قوة العلاقات الاجتماعية إلا أن القتال على أسس مذهبية يعصف بالعراق. وكان يفترض في الديمقراطية العراقية أن تعلي من قيم المواطنة إلا أنها أخفقت وعمقت الانقسامات المذهبية والاجتماعية. وربما حتى في المثال الكويتي نجد إخفاقات كبيرة عندما نسترجع تاريخ الديمقراطية في الكويت، فاليوم كذلك تزداد حدة الانقسامات الاجتماعية تحت مظلة الديمقراطية. أما في مصر، فنجد أيضاً أن الحزب الديني المتمثل في حركة "الإخوان المسلمين" عمق الانشقاق في الشارع المصري. والسؤال: هل إن الأحزاب الدينية هي السبب في الانقسام الذي نشهده في بلادنا العربية؟ طبعاً نحن ندرك على مر التاريخ أن الانقسامات الاجتماعية تم توظيفها سياسياً اعتقاداً من السلطة بأن حالة التوحد المجتمعي المتجسد في المواطنة قد تشكل تهديداً للسلطة، بينما الحقيقة هي أن توحد المجتمع ضمن صيغ المواطنة هو تعضيد للسلطة وليس مصدر ضعف لها كم قد يعتقد البعض. ومن الواضح أن هناك ما هو مشترك بين الأحزاب الدينية، يتجسد في رغبتها في الاستيلاء على السلطة عبر الديمقراطية، وليس هدفها تطوير آلياتها كما ينبغي، وهذا يتجسد في المثالين المصري والعراقي، وهنا تتشكل لنا أزمات قاتلة تقود إلى مزيد من التدمير لمجتمعاتنا العربية، ما يستوجب أن نعيد فهمنا لوسائل التطور الاقتصادي والاجتماعي ونقيم تجاربنا العربية على يد الأحزاب غير الدينية، حيث إنها أخفقت كذلك في تحقيق تطور يجمع عليه الجميع، ويحقق النهضة المبتغاة. إن الديمقراطية في نهاية المطاف تقصد تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية لتقلل حالة الاحتقان، ومن ثم إذا ما اتفقنا على الهدف تصبح السلطة العربية مطالبة بفهم أهمية العدالة الاجتماعية باعتبارها أداة لاستقرار المجتمع. والمبادرة مهمة لمجتمعاتنا، وخصوصاً بعد ظاهرة "الربيع العربي"، وربما نستفيد من أسبابها لكيلا يتكرر مشهد التمزق الذي يطفو على السطح في بلاد الربيع العربي. خطأ جسيم أن نقلل من أسباب التحول العربي، وخطأ أيضاً أن نسطح من ضخامة الحدث، وفي الوقت نفسه تملك السلطة العربية ما يجعلها أكثر قرباً للناس إذا ما حاربت الظلم الذي شكل أحد أهم عوامل الحراك العربي.