ربما لا تشهد مصر استقراراً في المستقبل من دون إصدار قانون للعدالة الانتقالية يعالج قضايا انتهاك حقوق الإنسان، ويغلق ملفاتها وفقاً لقواعد الإنصاف، وفي إطار مزيج من المحاسبة والمصالحة. وليس ممكناً أن تعبر مصر أزمتها الخانقة، وتستقيم الحياة فيها بالاعتماد على الزمن لمداواة الجروح العميقة المترتبة على هذه القضايا. فلا سبيل لمعالجة هذه الجروح إلا العدالة الانتقالية التي تضع البلاد على طريق الخروج من النفق المظلم المحشورة فيه الآن. وما لم تغلق ملفات قضايا الانتهاكات، ستظل مصدراً لتوتر واحتقان يحولان دون تصالح المجتمع مع نفسه، ويحبطان في الوقت نفسه الجهود الهادفة إلى وضع حد للعنف الذي قد يتوسع نطاقه، ويؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه. فقد دخلت مصر في دائرة عنف لا يبدو أن لها نهاية تلقائية، خاصة في ظل استهانة جماعة "الإخوان" بهذا العنف ومحاولتها استغلال عدم وجود أدلة تدين مبارك وبعض أركان نظامه لتصفية حساباتها مع السلطة القضائية، ومحاولة الانقضاض عليها تحت شعار "القصاص للشهداء". فقد استخدمت جماعة "الإخوان" هذا الشعار ذريعة لشن هجمة منظمة على السلطة القضائية سعياً إلى عزل أكثر من ثلاثة آلاف من شيوخ القضاة المستعصين على الإخضاع، عبر محاولة تعديل القانون لخفض سن الإحالة على التقاعد من سبعين إلى ستين عاماً. وهذه هي الخطوة التي يبدو أن "الجماعة" تعتبرها محورية للهيمنة على القضاء الذي يمثل عقبة أمام مشروعها للهيمنة على مؤسسات الدولة كلها. ولعل أكثر ما يكشف الهدف الحقيقي وراء هذه الهجمة التي تتذرع بأن القضاء لا يقتص للشهداء، وكأن القاضي يحكم وفق هواه وليس تطبيقاً للقانون، هو أن القائمين بها يراوغون بشأن إصدار قانون للعدالة الانتقالية. غير أن محاولة إخضاع المؤسسة القضائية ليست هي الهدف الوحيد وراء التهرب من الأخذ بفكرة العدالة الانتقالية. فثمة سبب آخر لا يقل أهمية، وهو أن إصدار قانون وفقاً لهذه الفكرة لابد أن يؤدي إلى محاسبة بعض أركان سلطة جماعة "الإخوان" الذين انتهكوا حقوق الإنسان خلال الأشهر العشرة الأخيرة. فلا فرق بين الانتهاكات التي حدثت في عهد محمد مرسي وتلك التي وقعت في نهاية عصر مبارك. وإذا كان هناك فرق، فربما تكون الانتهاكات الجديدة المستمرة أشد لأنها حدثت بعد تغيير استهدف تحقيق الكرامة الإنسانية، فضلاً عن الحرية والعدالة الاجتماعية. ولذلك لا يمكن لقانون العدالة الانتقالية أن يتعامل مع قضايا الماضي القريب ويتجاهل الماضي الأقرب، لأن هذه العدالة لا تتجزأ. فالهدف الأساسي لفكرة العدالة الانتقالية في أصلها هو معالجة جرائم الماضي لكيلا تتكرر. ولذلك ينتهي الماضي وفقاً لهذه الفكرة عند إصدار القانون، وليس في تاريخ سابق عليه. والسبب بسيط هو أنه يستحيل غلق ملفات انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم المتعلقة بها إذا ظل بعضها خارج نطاق المحاسبة. ولذلك لا يكون لقانون العدالة الانتقالية نصيب من اسمه إذا نص مثلًا على معالجة قضايا الانتهاكات التي حدثت حتى تخلي مبارك عن السلطة في 11 فبراير 2011 ما دام هناك مثلها بعد هذا التاريخ. فلا سبيل إلى معالجة القضايا الخاصة بضحايا الانتهاكات المختلفة، مثل القتل والتعذيب والاحتجاز القسري، وغيرها إلا عبر إصدار قانون للعدالة الانتقالية من أجل معرفة حقائق ما حدث في هذه الانتهاكات التي يصعب التقدم إلى الأمام من دون غلق ملفاتها بطريقة عادلة. ولا يمكن أن يتحقق أي عدل في القضايا المتعلقة بهذه الانتهاكات من خلال هجمة شرسة على القضاء سعياً إلى إخضاعه للسلطة التنفيذية وأتباعها. والحال أنه لا مصداقية لشعارات، مثل القصاص للشهداء، وتطهير القضاء حين يكون الهدف هو استغلالها لمحاولة فتح باب للتحكم في السلطة القضائية المستعصية على الإخضاع كما يحدث في مصر الآن. ولو كان القصاص للشهداء هو الهدف بالفعل، لأصدر مجلس الشورى الذي تهيمن عليه جماعة "الإخوان" قانوناً للعدالة الانتقالية بدلًا من محاولة إخضاع القضاء لسيطرتها، ولما لجأ هذا المجلس الذي يملك السلطة التشريعية الآن للمراوغة كلما طولب بنظر مشروع يتعلق بهذه العدالة لمعالجة قضايا الانتهاكات جميعها دون تجزئة. وتقوم فكرة العدالة الانتقالية على معالجة القضايا الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان بطريقة تتيح إمكانات غلق ملفاتها، ومنع تكرارها ومعرفة الحقائق المتعلقة بها، وتعويض ضحاياها معنوياً وأدبياً وليس فقط مالياً وتحقيق المصالحات اللازمة وفق قواعد موضوعية، في إطار استراتيجية لإعادة بناء الوطن على أساس يمكنه من التقدم متخففاً من أثقال الماضي وآلامه وأمراضه. فقد أظهرت التجارب أن الطريق الأقصر والأنجع لشفاء المجتمع من آلام انتهاكات حقوق الإنسان هو إقرار قانون للعدالة الانتقالية يضع القواعد العامة المجردة لمعالجتها وفق معادلة تجمع بين المحاسبة والمصالحة، ومعرفة الحقائق وتحصين المجتمع ليصبح أكثر قدرة على منع تكرار هذه الانتهاكات. ولذلك يجوز القول إن العدالة الانتقالية تمهد للتحول إلى الحالة الطبيعية للمجتمعات التي تقوم على العدل وتستطيع التصدي للظلم. وهذا هو ما حدث في غير قليل من المجتمعات في فترات الانتقال من الاستبداد والتسلط إلى الديمقراطية والتحرر، سواء بعد ثورات شعبية أو حروب أهلية. ولكن فكرة العدالة الانتقالية لا تزال بعيدة في مصر على رغم أنها حققت نجاحاً كبيراً في بلاد أخرى بعضها قريب منها مثل المغرب. ويعد اليمن هو الوحيد بين أربع دول عربية حدث فيها تغيير، في إطار ربيع سياسي تحول خريفاً، الذي يتجه إلى الأخذ بفكرة العدالة الانتقالية. فقد دشّن لجنة لهذه العدالة في مؤتمر الحوار الوطني الذي تفتقد مصر مثله أيضاً. ولا يحتاج إصدار قانون للعدالة الانتقالية أكثر من إرادة سياسية من جانب السلطة سعياً إلى تحقيق العدل والإنصاف للضحايا والمجتمع، وبالتالي إزالة مشاعر الانتقام العشوائي التي تولد العنف، فضلاً عن ترسيخ مبدأ المحاسبة في المستقبل على نحو يكفل عدم تكرار جرائم الماضي. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون هيئة وطنية مستقلة تقوم على ركيزتين إحداهما قضائية، والثانية مجتمعية، وتتمتع بصلاحيات كاملة في تشكيل لجان تقصي الحقائق ولجان التحقيق المستقل عن السلطات جميعها، بما فيها السلطة القضائية، ويتم اختيار القضاة الأعضاء فيها وفقاً لمعايير موضوعية. ولهذه الهيئة أيضاً أن تعقد محاكمات علنية مستقلة تتوافر فيها المعايير الدولية للعدالة. وهذا هو الطريق الوحيد لغلق ملفات مؤلمة على أساس قواعد الإنصاف، و بعيداً في الوقت نفسه عن غرائز الانتقام من رئيس سابق أصبح ضعيفاً، وليس من الأخلاق في شيء إهانته، بعد أن تقدم به العمر واشتدت عليه أمراض الشيخوخة.