في ختام تأملاتنا في عالم الإبداع الروائي لروايات "البوكر"، نقف اليوم وقفة أخيرة نتأمل من خلالها أهم الاستنتاجات التي قادتنا إليها هذه التأملات، آملين أن تسهم في مزيد من التراكم المعرفي والوجداني الذي يسهم بدوره في تحقيق الجدوى المعرفية والفكرية التي تليق برسالة الأدب، وبالمهمة التي يود الأديب أن ينجزها على صعيد المجتمع وعلى صعيد المتلقي أو القارئ. وقبل أن ندخل في تفاصيل ذلك، نود التأكيد على أن هذه الوقفة تحمل في طياتها تحية إعجاب وتقدير لكل الجهود، التي قامت على أمر هذه الجائزة، والتي جعلت منها شمساً لا تغيب عن سماء الإبداع العربي. أما عن أهم الاستنتاجات المعرفية، التي كانت ثمرة تأملاتنا في عالم الإبداع الروائي لروايات "البوكر" ، يمكن القول: أولاً من أهم الاستنتاجات التي انتهينا إليها عبر تأملاتنا في عالم الإبداع الروائي، للروايات الست التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة "البوكر" تتمثل في أن هذا العالم الروائي يجسد الآفاق المأزومة التي وصل إليها الإبداع العربي في مجال الرواية. وكان دليلنا على ذلك يتمثل فيما قدمناه من قراءة لخطاب الأزمة داخل هذه الروايات. ونؤكد هنا مرة أخرى على أننا نعني بخطاب الأزمة، ذلك الخطاب الدال على كل ما يشكل تهديداً لمقومات المجتمع، ويشكل خطورة على استقراره واستمراره في حاضره وفي مستقبله. وما يترتب على ذلك من اختلال منظومة القيم والمعايير والنظم التي تعمل على تماسك المجتمع، ومن الطبيعي ألا يتشكل هذا الخطاب من فراغ. وهنا نؤكد أن خطاب الأزمة الذي جسدته هذه الروايات قد تشكل في سياق التحولات التي مر بها العالم العربي خلال المرحلة الأخيرة من مراحل تطوره، حيث كانت هذه التحولات بمثابة الظروف الموضوعية التي شكلت مصدر إلهام للروايات التي نحن بصدد الحديث عنها. وما يؤكد ذلك أن الروايات الست قد تم الانتهاء من كتابتها خلال السنوات الثلاث الأخيرة: حيث تم إنجاز رواية "ساق البامبو" عام 2011 ، وتم إنجاز رواية "مولانا" خلال الفترة من أبريل 2009 – مارس 2012 . كما تم إنجاز رواية "يا مريم" عام 2010 . وتم إنجاز رواية "القندس" عام 2011 ، وتم إنجاز رواية "سعادته السيد الوزير" عام 2011، وهذا يؤكد لنا مرة أخرى أن هذه الروايات كتبت على خلفية التطورات التي شهدها العالم العربي خلال الفترة القصيرة الماضية. وثمة إجماع بين عدد كبير من الباحثين والمتابعين لسيرورة التحولات والتطورات التي شهدها الوطن العربي خلال تلك الفترة، بأن هذه التحولات والتطورات قد حملت في طياتها معالم الأزمة التي شهدتها بعض دول العالم العربي، على صعيد الحياة الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية والقيمية. ثانياً: إذا كان العالم الروائي لروايات "البوكر" قد جسد الآفاق المأزومة التي وصل إليها الإبداع العربي في مجال الرواية، فإن التعبير عن معالم هذه الأزمة ظهر واضحاً في كل ما يتصل بأزمة الذات وأزمة الهوية، وهنا نؤكد على أن أزمة الذات وأزمة الهوية تعد الوجه المقابل لأزمة المجتمع. ثالثاً: أن التعبير عن أزمة المجتمع وأزمة الذات، وأزمة الهوية قد اتخذ سمات إبداعية، داخل العالم الروائي لروايات "البوكر"، وتم رصد هذا الواقع المأزوم في العديد من المستويات، كان أهمها:- -المستوى العام الذي يرتبط بأزمة التحولات التي يمر بها المجتمع، الذي يمثل السياق الموضوعي الذي تعيش فيه شخصيات العالم الروائي. -المستوى الخاص، الذي يرتبط بما تعيشه شخصيات العالم الروائي من أزمات وجودية، وقد ظهر ذلك واضحاً في: انفصال واغتراب معظم شخصيات العالم الروائي عن الواقع، وعدم قدرة هذه الشخصيات على مواجهة الذات، وافتقاد العلاقة الحميمية بين أفراد العائلة الواحدة بين الأب والأبناء، بين الأخوة والأخوات، بين الزوج والزوجة. والفجوة المعرفية والقيمية بين الأجيال، خاصة بين جيل الآباء وجيل الأبناء، وبين أبناء الجيل الواحد، خصوصاً بين جيل الشباب الذين هم أمل المستقبل. وفقدان الإحساس بالطمأنينة والأمان وعدم القدرة على الفرح، خاصة لدى أبناء الجيل الحالي، التشاؤم وفقدان الثقة في المستقبل، والنهاية المأساوية لمعظم شخصيات العالم الروائي. وتطرح هذه الاستنتاجات سؤالاً معرفياً مهماً يتمثل في طبيعة الرسالة الوجدانية والمعرفية، التي يود الأديب توصيلها للقارئ أو المتلقي، من خلال تصويره لمعالم هذه الأزمة، بمستوياتها المتنوعة، هل يود الأديب أن يجعل القارئ يعيش في حالة من اليأس والقنوط وفقدان الثقة في المستقبل؟ وهل يود أن يجعل القارئ يعيش في حالة مستمرة من الإحباط واليأس وكسر الهمة؟ لا أعتقد أن الأديب يقصد ذلك، ولا أعتقد أن هذا القصد يخطر على بال الأديب، حين يعبر عن أزمة المجتمع وأزمة الذوات التي يتشكل منها نسيج المجتمع، بل على العكس، يبذل الأديب قصارى جهده، لكي يسهم في التأثير الإيجابي على سلوك ووجدان القارئ، بحيث يثمر ذلك في تعزيز قدرة هذا القارئ على المساهمة الإيجابية في تغيير ذاته ومجتمعه نحو الأفضل. وذلك من خلال قدرة الأديب على الغوص في مكنون الذات، ذلك الغوص الذي يمكنه من فهم الذات وفهم الآخر. وهذه مهمة من أعقد وأصعب المهام، لا يحققها سوى المبدع القادر على فهم تعقيدات النفس البشرية، والقادر على التعبير عنها بشفافية وصدق. وهذه مهمة من أنبل المهام التي يحققها الإبداع الفني عامة، والإبداع الروائي خاصة. وأعتقد أن روايات "البوكر" قد أنجزت هذه المهمة باقتدار، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن التعبير عن هذه الأزمة يسهم في فهم أعمق للواقع الذي يعيشه القارئ، كما يسهم في توضيح كيف ينعكس ما يمر به الواقع من أزمات على الذوات التي تعيش في هذا الواقع، بحيث يسهم ذلك في شحذ همة القارئ نحو التفكير في مجتمع أفضل، ونحو تجاوز أزمة هذه الذوات، والبحث عن آفاق مغايرة تجعل القارئ قادراً على التفكير في استلهام طرق متجددة من مواجهة أزمة الذات وأزمة الهوية، والانتصار عليها، واستنهاض قدرته على الفرح، رغم كل ما يحيط به من معالم الإحباط والتشاؤم. وأخيراً وليس آخراً، فإن التعبير الدرامي عن هذه الأزمة بمستوياتها المتنوعة، ربما يكون صرخة مدوية يعلنها الأديب، لعلها تسهم في تعزيز قدرة القارئ أو المتلقي على المواجهة، وعلى الانطلاق نحو آفاق متجددة تحقق إنسانية الإنسان في عالم يفيض بالحق والخير والجمال، وهذه رسالة الأدب الخالدة، التي ينشدها دائماً؛ وإن تنوعت طرق توصيل هذه الرسالة إلى القارئ.