"هارلم شيك"رقصة بهلوانية شبابية ظهرت في بداية الثمانينات في حي "هارلم" الفقير بنيويورك، ولم تنتشر عالمياً إلا في بداية فبراير الماضي عندما دخلت شبكات التواصل الاجتماعي في صيغتها الجديدة التي أبدعها الموسيقار الإلكتروني"بوير". انتشرت الرقصة على نطاق واسع في موقع "يوتيوب" إلى حد أن مشاهدتها وصلت في أقل من ثلاثة أشهر إلى ما يزيد على أربعمائة ملايين مشاهدة. وتتمثل الرقصة الكرنفالية في مجموعة من الأفراد المتنكرين وشبه العراة يحركون صدورهم بعنف وفوضوية . اجتاحت رقصة "هارلم شيك" الساحة العربية من البوابة التونسية، عندما أدتها مجموعة من طلاب مدرسة ثانوية في العاصمة تونس في 23 فبراير محدثة زلزالاً قوياً في البلاد.احتجت وزارة التربية التونسية على الرقصة الطلابية، وأجرت تحقيقا حولها، فامتدت إلى الجامعات والمدارس وانتقلت إلى أمام مقر "حزب النهضة" الحاكم، وأفضت إلى تنحية وزير التربية نفسه. رقصة "هارلم شيك"، امتدت إلى الساحة المصرية في المؤسسات التعليمية والمنتديات الأهلية وأمام مقرات جماعة "الإخوان المسلمين" الحاكمة. وهكذا تحولت الرقصة الشبابية الجديدة إلى تظاهرة رمزية احتجاجية على صعود التيارات الإسلامية في بلدان "الربيع العربي"، مع أنها لم تكن في بدايتها سوى انتفاضة شباب غربي ضد الملل وأجواء الأزمة المالية العالمية القاتمة. شباب "الربيع العربي"، الذي أبدع شعارات "ديغاج"(أي تنح باللغة الفرنسية) و"الشعب يريد إسقاط النظام"، هو نفس الشباب الذي أبدع الصيغة السياسية من رقصة "هارلم شيك" للوقوف ضد التيار الذي يعتبر أنه سرق منه الثورة، وانحرف بها عن أهدافها التحررية الليبرالية. في الحالتين، نحن أمام مسلكين للتعبير الاحتجاجي الفاعل هما سلطان الكلمة وسلطة الجسد في أبعادهما السيميولوجية (الدلالية) المتمايزة. كان الفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز" أول من نبه في كتابه "اللفيتان" إلى التمييز بين الوظيفة التعبيرية للغة ووظيفتها العملية الإجرائية عبر ثنائية الاستخدام الفردي للسان واستخدامه الجماعي. في الصنف الأول من الاستخدام يتم التركيز على الطابع البرهاني التأويلي، وفي الصنف الثاني يكون التركيز على الفعل والعمل. اللغة بالمنظور اللساني الحديث ليست إذن ممارسة تعبيرية لفظية، بل هي أفعال واستراتيجيات خطابية متعددة، ولها فاعليتها الإنجازية والعملية وسلطتها الرمزية. ومن هنا قول عالم الاجتماع الفرنسي المعروف "بيار بورديو"، إن اللغة تصنع العالم بقدر ما تعبر عنه، بحيث إن وضع كلمة مكان أخرى يفضي إلى تغيير نوعي في رؤية العالم، مما يتجلى بقوة في اللغة السياسية التي عدها من قبيل "السحر". ويضرب "بورديو" مثالًا على أطروحته بالقول إن نشوء "الطبقة العمالية"(البروليتاريا) الذي تحدث عنه "ماركس" كان نتيجة وأثراً للخطاب الماركسي على الرغم أن ماركس توهم أنه يصف واقعاً ولا يبدعه. سلطان الكلمة بدا جليا في شعارات "الثورات العربية"، التي كان لها وقع سحري عجيب. في الوقت الذي فشل الخطاب التحليلي البرهاني الذي أنتجه المفكرون العرب في العقود الماضية حول استراتيجيات ومشاريع التغيير والتحول. لم تكن شعارات "الربيع العربي" في انطلاقته محملة بأي مضامين أيديولوجية، لكنها كانت تعبر في اتجاهاتها العامة عن مثل ليبرالية فردية حملتها شبكات عفوية مرنة لا يجمع بينها سوى صيحة التغيير الراديكالي العنيف، ولم يكن بإمكانها أن تتحول إلى بناء سياسي ناجع، ولذا سرعان ما تم احتواؤها من طرف القوة السياسية والأيديولوجية الوحيدة المنظمة، التي هي تيارات الإسلام السياسي. وهكذا كان من الطبيعي أن يهزم منطق الجماعة حركية الفرد التي هي اندفاع الجمهور أو الحشد من حيث هو "فرديات حرة" لا جامع بينها حسب لغة "سبينوزا". الجمهور يصنع الثورة والجماعة تحصد نتيجتها. عبر رقصة "هارلم شيك"، يتغير المنطق، وينتقل التعبير إلى الجسد في راديكاليته الاحتجاجية وإيحاءاته التعبيرية الصاخبة، التي لا يمكن للجماعة احتواءها. تتلاءم الرقصة الاحتجاجية مع روح الجمهور في فرديته وعفويته ومرونته، وترمز إلى الخروج من حالة النظام والاستقرار والتواضع الاجتماعي إلى حالة التحرر والإبداع والقطيعة. من خلال عملية التنكر وارتداء الأقنعة البهلوانية تتزعزع الهويات الثابتة ويتم الخروج عن كل قيود المجتمع وتبرز السلطة الاحتجاجية القوية للجسد العاري. كان الفيلسوف "مرلو بونتي" قد بين أن الجسد سابق على اللغة في عملية التنشئة الاجتماعية، وأنه هو الذي يُعين منزلة الإنسان في العالم، بل إن اللغة نفسها لا تتلخص في الأبعاد اللفظية التعبيرية بل لها جوانبها الجسدية القوية، التي هي إشارات وأفعال رمزية تتمتع بمقومات تعبيرية وتواصلية قوية. في الرقص تدخل الأبعاد الحسية والغريزية والحدسية التي هي من جهة سابقة على الفعل اللغوي، ومن جهة أخرى مكملة له مشكلة ما أطلق عليه "بورديو" عبارة "الحس العملي"، الذي هو مجموع مقومات السلوك الثقافي والاجتماعي. تقف حركية التغيير العربي أمام مأزق متفاقم يتعلق بمصاعب ومعضلات الانتقال السلمي من الأوتوقراطية الأحادية إلى التعددية المنضبطة والمستقرة. ولعل أحد أبرز هذه التحديات القائمة هو الحيلولة دون استفراد لون فكري وأيديولوجي بعينه برسم مقومات وآليات النظام السياسي والدستوري، مما سينتج عنه نقل بعض أوجه الصراع المجتمعي إلى خارج الأطر الشرعية الإجرائية للفعل السياسي. تعيش بلدان "الربيع العربي" في أيامنا ظاهرة "الشرعيات العاجزة"، التي تعني إخفاق آليات المنافسة الديمقراطية التعددية في احتواء الأزمات الداخلية والصراعات الأهلية، مما لا يمكن تفسيره بمخططات الخارج الناقم ولا دور "الفلول" الحاقدة. وما دامت المعارضات السياسية والإيديولوجية المفككة والواهنة عاجزة عن تحصين التعددية الفكرية والمجتمعية، فإن ديناميكية التمرد الفردي تغدو خط المقاومة الأخير للوقوف ضد الأنماط الجديدة من الأحادية والاستبداد وفي مقدمتها ما أطلق عليه "دي توكتوفيل" عبارة "الديكتاتوريات الانتخابية". رقصة "هارلم شيك" هي من هذا المنظور صيحة احتجاجية لانتشال المدى التحرري في الأفق الديمقراطي العربي الوليد.