كانت الذكرى المئوية الثانية لميلاد تشارلز داروين، ومرور مئة وخمسين عاماً على صدور كتابه «أصل الأنواع»، من المناسبات التي نالت حظاً وافراً من الاحتفاء والاهتمام عام 2009، وكانت مكتبة الإسكندرية بمصر، بالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني من بين الجهات والمؤسسات المهتمة بهذه الذكرى، حيث دعت إلى مؤتمر علمي ثقافي تحت عنوان "تراث داروين" الحي، باشتراك علماء وباحثين من ثلاثين دولة في العالم. وكتب «مالك عساف» أن تغير المناخ والخلايا الجذعية ونظرية التطور، كانت أبرز ثلاثة مواضيع علمية في عام 2009، وأشار إلى ضمور أو تقزم الخراف في "جزيرة هيرتا" التابعة لأرخبيل "سانت كيلدا" الأسكوتلندي، كأطرف قصة علمية جمعت بين نظرية التطور وتغير المناخ. فحسب نظرية داروين كان يُفترض بهذه الخراف أن تكبر من حيث الحجم، لكن الحقيقة هي أن حجمها أخذ يضمر بشكل ملحوظ خلال الـ25 سنة الماضية. وقد اعتمد داروين في فرضيته تلك على حقيقة أن هذه الخراف تحتاج إلى مراكمة كمية كبيرة من الدهون حتى تتمكن من الصمود خلال فصل الشتاء قصيراً وأكثر قابلية للتحمل، الأمر الذي مكّن الخراف الأصغر حجماً من الصمود والبقاء على قيد الحياة، في حين أن الخراف السمينة أصبحت تنفق بسبب ارتفاع حرارة الجو. وقد كانت هذه الملاحظات بمثابة مثال حي على التطور الذي يمكن أن يطرأ على مجموعة حيوانات تعيش في بيئة متغيرة. أما الحيوان الآخر الذي نال اهتماماً إعلامياً لافتاً خلال 2009 فهو مستحاثة «ايدا»، وهي البقايا الحيوانية أو النباتية المتحجرة التي تعود لنحو 47 مليون سنة، وهي لحيوان بدائي يقطن الأشجار. وقد أجمع عدد كبير من العلماء على أن هذه المستحاثة هي حلقة الوصل المفقودة، بين رتبة الأساسيات - كالقرد والإنسان - وبقية الحيوانات الأخرى، علماً أنه ظهرت لاحقاً بعض الدراسات التي تشكك في هذا الأمر. وتأثر "داروين" بما قرأ من أخبار عن «همبولت»، العالم الألماني الشهير، الذي قام برفقة عالم النبات «بونبلاند» على امتداد خمس سنوات، برحلات علمية إلى أميركا الجنوبية. كما استفاد "داروين" كثيراً من صداقته لأستاذ متخصص في علم النبات يدعى «هنسلو»، وكان "جون ستيفنس هنسلو" عالم نبات ورجل دين وعالم جيولوجيا، كما تقول عنه الموسوعة البريطانية. وكان صاحب فضل أساسي في توسيع نطاق الاهتمام بعلم النبات في جامعة كامبريدج بإدخاله وسائل جديدة في تدريسه. وكان العالم «هنسلو» هو من رشح «داروين» لمرافقة بعثة السفينة «بيجل» الشهيرة، فقد لاحظ عليه شدة الاهتمام ودقة المتابعة كطالب علم وجامع للعينات النباتية وغيرها. وقام «هنسلو» بترشيح داروين لأحد أساتذة الفلك بجامعة كامبردج، لمرافقة بعثة علمية إلى «أرض النار» والأرخبيل الهندي. وجاء الترشيح بناء على إلمام داروين وولعه بدراسة التاريخ الطبيعي. وكانت هذه الرحلة كما هو معروف نقطة تحول في حياة داروين. فقد استغرقت خمس سنوات، ما بين 1831-1836، استثمرها داروين في إجراء الأبحاث وتدوين المعلومات. وكان أعضاء البعثة مكلفين بدراسة أجواء وتضاريس أرض «بتاجونيا» و«أرض النار» و«تشيلي» و«بيرو» وغيرها، بينما اختص داروين بدراسة النباتات والحيوانات في هذه المناطق. وبدأت المعلومات تتجمع في عقلية داروين شيئاً فشيئاً عن أصل الكائنات وتطورها، وهو الأمر الذي ساعده بعد ذلك على وضع نظريته الخاصة بالتطور. وما يغفل عنه الكثيرون أن نظرية التطور نفسها قد تطورت، بل وتطورت إزاءها مواقف معارضيها. وفي عام 1817 اكتشف الفرنسي جورج كورفيير أول هياكل معروفة للديناصور. وفي عام 1856، اهتز العالم لاكتشاف مجموعة من الهياكل العظمية لنوع يشبه الإنسان في «وادي نياندرتال» على مقربة من «دوسلدورف» بألمانيا. ويقول السير "آرثر كيث" في فصل مطول عن «تطور الإنسان» في «تاريخ العالم»، إن الكشوفات المتعاقبة دلّت على أن كتلة المخ عند «إنسان نيندر»، كانت تزيد على مثيلتها عند كثير من الأجناس البشرية الحية، كما أننا استطعنا أن نقدر ذكاه وحذقه من دقة الأدوات التي صنعها. وفي عام 1909 ظهرت البدايات الأولى للنظرية المعارضة تماماً لنظرية التطور، وهي «الخَلْقية» التي تسعى كما تقول نبذة النهار، إلى «التوفيق بين العلم ونصوص الدين المسيحي». وفي عام 1923 منعت الولايات الجنوبية في أميركا تدريس نظرية داروين. وفي عام 1925 اعتقل المدرس جون سكوبز بتهمة تدريس نظرية داروين في ولاية جنوبية، وأثار الحادث نقاشاً قضائياً حاداً. ومن نقاط التحول المتعلقة بتعامل المدارس الأميركية مع نظرية التطور ما جرى عام 1968، حيث أعلنت المحكمة العليا في أميركا أن المدارس ليس باستطاعتها منع تدريس نظرية داروين. وفي عام 1972 قام «هنريموريس" ببلورة «النظرية الخَلْقية»، وطالب بأن تُدرس على قدم المساواة مع نظرية داروين في كل مدارس الولايات المتحدة. إلا أن المحكمة العليا رفضت عام 1987 مطالب موريس. وفي عام 1996 أعلن البابا «يوحنا بولس الثاني» أن الكاثوليكية لا تتعارض مع التطور. ونشر عالم البيولوجيا «مايك بايه» كتابه «الصندوق الأسود لداروين» مبيناً فيه أن الخلية الحية أكثر تعقيداً مما فكر به داروين. وفي عام 1999 أقرت الهيئة التعليمية لولاية كنساس حذف نظرية داروين من المناهج المدرسية للولاية. أما في عام 2001 فقد أظهر استطلاع لوكالة «غالوب» أن نصف الأميركيين لا يؤمنون بنظرية داروين. ويمتد نشاط المعادين لنظرية التطور خارج الولايات المتحدة بما في ذلك بلدان العالم الإسلامي، ويقول د. أحمد بشارة في مقال له عن داروين في الصحافة الكويتية، أن في تركيا حركة إسلامية نشطة لمناهضة نظرية داروين، تستمد مقوماتها وحتى أدبياتها من التيار الأميركي الذي يحاربها، وهي معركة لا تزال مستمرة في أميركا، خاصة في الأوساط البروتستانتية المحافظة. وهي تتجلى في الصراع بين حين وآخر على مناهج تدريس علوم الحياة التي تتضمن نظرية التطور، مطالبين إما باستبدالها بنظرية الخلق - كما جاءت في سفر التكوين في الكتاب المقدس - أو بتقديم النظريتين جنباً إلى جنب. ولتعزيز مفاهيم نظرية الخلق تأسس العديد من المعاهد والمنظمات والمنتديات. وبعد فشلها في التغلغل سعت هذه الحركات إلى تأسيس نظرية «التصميم الذكي» القائمة على الحاجة إلى تدخل في نشأة الإنسان. وفي إيطاليا، تسبب الاحتفاء بداروين في نشوب عراك بين النواب، تبادلوا خلاله اللكمات والاعتداءات اللفظية، قبل أن تُرفع الجلسة. فقد جرى نقاش بين نائبين حول قضايا دعم القطاع الزراعي، وهما ينتميان إلى حزبين متعارضين. أما سبب المشاجرة فيعود إلى انتقاد أحد النائبين لمعرض علمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد تشارلز داروين. وفي بريطانيا، ركز الكاتب «دينيس سيويل» في كتابه «الجينات السياسية» على الاستغلال السلبي لنظرية التطور وآراء داروين منذ ظهورها. وقد أبرز «سيويل» في كتابه هذا عن الكيفية التي غيّرت أفكار داروين أسس السياسة، بأن أبرز جوانبها السلبية، تمثلت في التصنيفات العرقية التي وضعها داروين».