يحتل الأزهر منزلةً عاليةً ليس في مصر وحسْب؛ بل وفي سائر أنحاء العالم الإسلامي. وقد كانت له في أَوج امتداده وانتشاره في ستينيات القرن الماضي أكثر من مائة بعثة للدعوة والتعليم في العالم الإسلامي وعوالم الاغتراب. وعندما ذهبتُ للدراسة بالأزهر عام 1966، كنتُ قد تخرجت من معهد شرعي ببيروت أساتذته من مبعوثي الأزهر، وأقمتُ مع زملائي في «مدينة البعوث»، وكانت مخصصة لطلاب الأزهر من غير المصريين، وتحتوي على عدة آلاف من أفريقيا وآسيا والعالم العربي والغربين الأوروبي والأميركي. وتطور الأزهر في الأزمنة الحديثة إلى المعاهد الأزهرية المنتشرة في أنحاء مصر، والكليات الثلاث بجامعة الأزهر: الشريعة وأصول الدين واللغة العربية. وتغير تنظيم الأزهر كثيراً في مطلع الستينيات بعد القانون رقم 101؛ فبالإضافة إلى تغيير البرامج، انضمت إليه عشرات الكليات والمعاهد في العلوم والطب والأعمال واللغات. واتسعت الجامعة وتكاثرت بالداخل المصري، وصارت لها شراكات وفروع في العالم الإسلامي. وللأزهر إدارات ضخمة من قبل والآن. فتحت مشيخته هناك مجمع البحوث الإسلامية، وهناك إدارات البعوث والجامعات والمعاهد والمدن الجامعية والأوقاف. ورغم الاستقلالية التي جرى النص عليها في قانون عام 1961/1962، فالواقع أن الأزهر صار أكثر دخولاً في نظام الدولة المصرية ومؤسساتها. بيد أن هناك نصاً دستورياً الآن بشأن الاستقلالية، وعودة هيئة كبار العلماء وصلاحياتها، وإلحاق منصب المفتي عملياً بالأزهر وكان تابعاً من قبل لوزارة العدل. لماذا أذكر هذه المعلومات، بل ولماذا أُعالج هذا الموضوع اليوم؟ كان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قبل أُسبوع في دولة الإمارات، كما زار قبلها المملكة العربية السعودية. وزياراته هذه ليست تقليدية، كما كان يحصل من قبل في رمضان أو في مواسم الحج. فقد أفضت أحداثُ الثورة المصرية إلى بروز دور وطني مصري، ودور عربي وإسلامي للأزهر ما كانا له من قبل. كان الأزهر في العقود الأربعة الأخيرة قد صار مؤسَّسةً تعليميةً ضخمةً هائلة الاتساع، لكن تراجع دوره الفكري والمرجعي، ودوره في الفتوى والإرشاد العام، وذلك لسببين: طرائق تعامل السلطات السياسية معه، وتكاثر رجالات الإفتاء في زمن الفضائيات، ومنازعة الأحزاب الدينية له على المرجعية. وقد أدى انهيار نظام «مبارك»، ودخول مصر في مرحلة انتقالية طويلة ومضطربة، بالأزهر إلى اتخاذ مبادرات وأدوار ما كانت له منذ الخمسينيات. فقد بادر شيخه إلى أمرين مهمين: إنشاء «بيت العائلة المصرية» لصون علائق المسلمين بالأقباط والمسيحيين الآخرين، وصون الوحدة الوطنية المصرية، كما أصدر ثلاث وثائق ذات دلالة: الأولى تتعلق بمستقبل نظام الحكم في مصر، والثانية تتعلق بالتغيير العربي، والثالثة تتصل بالحريات. وبالطبع, فإن تلك المؤسسة (بيت العائلة)، وتلك الوثائق، لا تملك صفةً أو طابعاً رسمياً، لكنها أعادت الأزهر إلى سُدّة المرجعية الدينية، والأُخرى الوطنية والعربية. فبيتُ العائلة أعاد الاعتبار لنظام العيش العريق بمصر، ووضعه فوق التجاذبات السياسية التي يُحدثُها الصراع على السلطة، والتجاذبات باسم الدين والتي تنجمُ عن الأفكار الضيقة، والشكوك المتبادلة في أزمنة التأزُّم والاستنزاف. وفي الأسبوع قبل الماضي، وعندما كان مفتو السلفيين و«الإخوان» منهمكين في التشديد على تحريم تهنئة المسيحيين بعيد الفصح، ذهب شيخ الأزهر إلى بابا الأقباط للتعزية بأحداث بلدة الخصوص، والتهنئة بالفصح قبل سفره إلى الإمارات. أما الوثيقة الخاصة بنظام الحكم ومستقبله، والتي صاغها علماء ومثقفون مصريون برعاية وإشراف ومشاركة شيخ الأزهر؛ ففتحت آفاقاً ما استطاع كشفَها أو التأثير فيها فرقاء الإسلاميين المتصارعين على السلطة باسم الدين. وذلك عندما اعتبرت أن نظام الحكم يقوم على المواطنة، وهو ديمقراطي وتعددي وعصري وحافظ للحريات الأساسية وحقوق الإنسان. وما اكتفى الأزهر بذلك, بل عاد للموضوع ذاته في وثيقة الحريات الأربع، والتي تتقصد القول إنه لا تعارُض بين الحق أو التكليف الديني، والحق أو الحرية الفردية، وهو أمر نازع وينازع فيه الإسلاميون الحزبيون كثيراً، إمّا بسبب ضيق الفهم أو إرادة الاستغلال والشعبوية. والوثيقة الثانية المتعلقة بالتغيير شديدة الأهمية أيضاً. فقد كان السبب المباشر لإصدارها العنف المجنون الذي يمارسه النظام السوري ضد شعبه، وقد رأت الوثيقة أن الاعتراض السلمي حق للناس، كما أنه من حقهم الدفاع عن أنفُسهم إن استخدم النظام العنف القاتل ضد المتظاهرين لمنعهم من ممارسة حقهم في الاعتراض والتغيير معاً. وقد ظل الإمام الأكبر مهتماً بالأمر في سوريا، وأصدر عدة بيانات ضد عنف النظام، وضد رجال الدين الذين دعموا الأسد. كما اهتم بالتدخل الإيراني في سوريا، وفي إثارة الفتنة بين السنة والشيعة، وفي المضي بمحاولات التشييع. وهكذا بدا الأزهر مهتماً وفاعلاً في الشؤون الوطنية والعربية والإسلامية. وفي وقت بدا فيه منفرداً ومتفرداً في سائر هذه الأمور، في ظروف انكفاء الجمهور باتجاه الهموم الداخلية، واتجاه سلطة «الإخوان» للاستئثار بالداخل، والاتجاه مع الإيرانيين بقضايا الأمن الاستراتيجي العربي والإسلامي. هناك إذن ملفات وقضايا كان الأزهر مقصياً عنها وقد دخلها من مواقع الصون والحماية واسترداد المرجعية. وهناك ملفات وقضايا اضطُر لدخولها لوقاية مصر مجتمعاً ودولةً. إنما نحن أحوجُ ما نكون إلى الأزهر في المسألة الدينية والإسلامية. ذلك أنه ينفرد من بين مؤسسات أهل السنة الدينية بالاحتفاظ بالبنية الأساسية، وإمكان التأهل للأدوار الكبرى التي تقتضيها المشكلات الشاسعة للعالمين العربي والإسلامي. فالظاهرة الدينية في صعود ولن يتوقف هذا الصعود في المدى القريب. ولدينا من الذين يتحدثون باسم الإسلام فِرَق عِدة وحزبيات وشخصيات. كما لدينا أو علينا صراع أو صراعات فرضها الإيرانيون وأدخلوا فيها القومي والاستراتيجي على الديني. ولدينا الاهتمام الدولي والعالمي منقطع النظير وبالغ السلبية، بسبب تعرض «الجهاديين» لهم في عدة مواطن في العقدين الأخيرين. ولدينا تحديات العودة للحوار مع رُصَفائنا وشركائنا في العيش الوطني، وفي المدى العالمي. وإذا نجحنا في ترتيب بيتنا الداخلي، فسنستطيع الانصراف للقيام بمهامنا الرئيسية. تمتلك المؤسسة الدينية السنية عدة مهام لا يستطيع القيام بها غيرها وهي: قيادة العبادات، والتعليم، والفتوى، والإرشاد العام. وقد أُضيفت للأزهر بمقتضى الدستور المصري الجديد صلاحيات تشريعية. وقيادة العبادات أمر شديد الأهمية، بعد أن تشرذمت المرجعية، وما عادت العبارة وراء كل إمام! نريد أن نستمر في أداء شعائرنا وعباداتنا معاً باعتبارنا أمةً واحدةً ومفتوحة، والوحدةُ في صلوات الجُمع والجماعات هي رأسُ الدين وعمادُه. ولا نستطيع بالفعل مَنْعَ المعروفين بالعلم والفقه من الإفتاء، لكننا نريد استعادة ثقة الناس بحيث لا يقصدون غير المؤسسات الدينية في شأن الفتوى. وقد شعرنا بأجواء مختلفة ومنعشة عندما أتى إلينا الشيخ عبد الحليم محمود (عميد كلية أصول الدين وقتَها، وشيخ الأزهر فيما بعد) أواخر الستينيات بأساتذة من الجامعات المصرية لتعليمنا الفلسفة وعلم الكلام وفلسفة الدين. وقد أنجز الأزهر في سائر كلياته تواصُلاً كبيراً بالجامعات المصرية والغربية خلال العقود الماضية. لذلك أرى أن الفرصة مُتاحة للمتابعة المؤثرة في الأوساط الأكاديمية، وفي الثقافة الإسلامية عامة. ولدينا أخيراً وليس آخِراً مهمة الإرشاد العام، وقد ضعُف في مجاله أو مجالاته تأثير رجالات العلم الإسلامي. وبالطبع فإن التأثير يظل مُتاحاً بالتأهل والتفوق وإتقان أساليب العصر. إنما الذي يتيح الوصول إلى نتائج بعيدة المدى هو الرسالية والإصرار. وقد خبرنا سلبيات عدة عندما تراجعت لدينا روح العزيمة والإصرار والثقة بالله والدين ومهمات الدعوة. هناك مخاض إسلامي وعربي عظيم، حجمه بحجم أعداد العرب والمسلمين الضخمة، ومشكلاته يبلغ من ضخامتها أننا نخشى استعراضها الذي لم يَعُد منه مفر! وقد جاء في الأثر أن مصر كنانة الله في أرضه، ومقتضى ذلك أنها تجمع ولا تضيع، وتصون ولا تُبدِّد. وقد عرف جيلُنا مصر من خلال عروبة جمال عبد الناصر، كما عرف إسلام مصر من خلال الأزهر. ومن دون مصر للإسلام والعروبة معاً لا يبقى لدينا الكثير مما نستطيع الاعتصام به في أزمنة المخاض: {والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.