استكمالاً لحديث الأسبوع الماضي في السياق المصري عن «ذريعة الحاكمية»، نرى أن شعار"تطبيق الشريعة الإسلامية" مثل شعار "الحاكمية" شعار هجومي كذلك ضد القوانين القائمة التي تتغير كل يوم حتى لم يعد يعرف المواطن أي قانون يطيع؟ يخضع القانون للقوى السياسية واتجاهاتها وللطبقات الاجتماعية وسيطرتها، ولجماعات الضغط ولمصالح الفئات والأفراد. وعلى فرض التسليم بهذا القانون فإنه لا يطبق إلا على الضعفاء، أما الأقوياء فيتجاوزون القانون، ويتعاملون بالصفقات والأرباح وتبادل المنافع. يفرغ القانون من مضمونه الزائف لوضع حقيقي يتلاءم مع مصالح الناس. ويستفيد الموظف الذي يطبق القانون لمصلحة المواطن بالرشوة، ويستفيد المواطن بنيل حقه بعد طول عذاب. وقد تربت عند الناس ملَكة عدم الالتزام بالقوانين لأنها لا تعبر عن مصالحهم. ونشأ القانون الموازي الذي يخضع للعادات والأعراف، القانون الشعبي العشائري. وتحول المجتمع إلى عشائر يفض المشايخ نزاعاتها بالقضاء الشعبي. والقانون الموازي، والاقتصاد الموازي، والسياسة الموازية، أصبحت تكون الدولة الموازية التي يدين لها المواطن بالولاء، الدولة المضادة في مقابل الدولة القائمة التي لا يشعر المواطن أمامها بالانتماء، ولا يدين لها بالولاء. فتحرق المخازن والمتاحف بعد سرقها ونهبها. ويتحول المال العام إلى مال خاص، وتصبح الدولة مالاً مستباحاً، ودماً مسفوحاً حتى تقع البقرة الحلوب، ويتم تقسيم لحومها وشحومها للمستحقين العاملين عليها. وطالت الرشاوى بعض رجال القضاء، وغالى المحامون في الأجور. ووقف الناس طويلاً أمام المحاكم وفي ساحات القضاء انتظاراً لسنوات العذاب، النفقة للرضيع، والمعاش للأرمل، والميراث للمستحق، والأرض للفلاح، والمنزل للساكن. وقبل ذلك كانت المعاناة في أقسام الشرطة. الدولة هي الخصم والحكم. والداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود. ويضاف إلى القانون الصوري البيروقراطية في جهاز الدولة منذ الكاتب المصري القديم وحتى أرشيف القلعة وديوان الموظفين وإدارة المعاشات. كثرة الإمضاءات والأوراق والطلبات لا لشيء سوى تضخم جهاز الدولة وعلاقة المأمور بالآمر والموظف بالرئيس. وتاهَ المواطن في جهاز الدولة، وصاغ قانونه الخاص، وعرف سبيله لقضاء الحاجات بالمعارف والرشاوى ونظام القرابة والجيرة، وبما تبقى من شهامة ابن البلد. وفي هذه الحالة يكون "تطبيق الشريعة الإسلامية" أفضل وأعدل وأحق للناس. فهي شريعة فورية تنبع من إيمان الناس، وشريعة عدل، وشريعة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال. و"تطبيق الشريعة الإسلامية" إذن كشعار يعبر عن مطلب فعلي هو تحرير الناس من ظلم بعض القوانين الوضعية التي وضعها الناس، توقاً إلى قانون عادل يحقق لهم مصالحهم. هو نداء للرفض، ومقاومة بالسلب، وتطهر للنفس من ظلم القوانين الوضعية، وطلب للخلاص. ولا يعلم المواطن أن الشريعة الإسلامية هي أولى بلفظ "الوضع" كما بيّن الشاطبي في عرضه لأحكام الوضع في باب الأحكام في "الموافقات في أصول الشريعة"، تقوم على تحليل الحكم في العالم، السبب، والشرط، والمانع والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان. الشريعة الإسلامية تراعي الواقع، ومبنية فيه بناء على العلل المادية وشروطها وموانعها وقدرات الإنسان وحسن نيته. فإذا وصفنا القانون المدني بأنه قانون وضعي أعطيناه أكثر مما يستحق لأنه يقوم على وضع، بل يعبر عن هوى أو مصلحة، للفرد أو لجماعات الضغط أو للطبقات الاجتماعية. وقد يعني الشعار إيجاباً، تطبيق الحدود والعقوبات. وهي قوانين للردع. وهذا يعبر عن نفسية المضطهد المقموع الذي يوجه الشريعة ضد القامعين من ناحية وضد التسيب الاجتماعي والانهيار السياسي من ناحية أخرى. الشريعة هنا وسيلة للضبط الاجتماعي وليس للحراك الاجتماعي. وتقوم كل الأطراف السياسية بالمزايدة على بعضها بعضاً في تطبيق الحدود. فالغاية واحدة، الضبط الاجتماعي والسيطرة السياسية، والتخوين والردع بالقانون. وما زال يغيب عن كليهما معنى الشعار إيجاباً، وإيجاب الإيجاب هو إعطاء الناس حقوقهم قبل مطالبتهم بواجباتهم. فللمواطن حق العمل والكسب والتأمين ضد البطالة والمسكن والمدرسة والمستشفى، ضد العراء والجهل والمرض، قبل أن تقطع يد السارق: من يأخذ حافظة النقود من جاره في المواصلات العامة، أم من يستولي على الملايين من عائدات المال العام؟ لذلك وضع الفقهاء حداً أدنى للسرقة. وللشاب حق الزواج المبكر والسكن والمهر والأثاث والقضاء على الإثارات في أجهزة الإعلام قبل الرجم والجلد. إذا أخذ المواطن حقوقه طالبناه بواجباته. أما شعار "الإسلام هو الحل" أو "الإسلام هو البديل"، فهو كشعار أو بالأحرى ذريعة "تطبيق الشريعة" يعني تعثر الإيديولوجيات العلمانية للتحديث التي تم تجريبها في المجتمعات الإسلامية منذ فجر النهضة العربية الحديثة. فقد تم تجريب الليبرالية قبل الثورات العربية الحديثة بعد صلتنا بالغرب، واعتبار الغرب نمطاً للتحديث في فكرنا الحديث عند كل تياراته التجديدية عند الأفغاني، والليبرالية عند الطهطاوي، والعلمانية العلمية عن شبلي شميل. وعلى رغم إنجازاتها فيما يتعلق بحرية الفكر والصحافة والنظم البرلمانية والتعددية الحزبية والدستور والتعليم وإنشاء الجامعات والحركة الوطنية وبدايات التصنيع، إلا أنه قد تم نقدها وهدمها والقضاء عليها بعد الثورات العربية ووصفها بأنها إقطاع ورأسمالية وفساد وتغريب وفشل في حل القضية الوطنية، الاستقلال وحدة وادي النيل. وما زلنا نعاني حتى الآن تدمير النفس، وغياب الحريات العامة والديمقراطية ونتوق إلى فجر النهضة العربية الحديثة وعصر التنوير الأول بما فيه من عيوب. فقد بدت الآن مكاسبها أكثر من خسائرها، وإيجابياتها أكثر من سلبياتها. ثم جاءت الثورات العربية في الخمسينيات والستينيات على أنها البديل لتصنع مشروعاً قومياً جديداً تشكل عاماً وراء عام بناء على تجارب النضال الوطني، وعبر مساره خلال أربعة عقود من الزمن: بناء المجتمع الاشتراكي، التصنيع، حقوق العمال، الإصلاح الزراعي، مجانية التعليم، القطاع العام، التخطيط الاقتصادي، تحالف قوى الشعب، 50% من العمال والفلاحين في مجلس الشعب، القومية العربية، عدم الانحياز، باندونج، الحياد الإيجابي، حركة تضامن الشعوب الآسيوية والأفريقية، مقاومة الصهيونية والاستعمار الذي يعرف الآن باسم الناصرية. وبعد اختفاء القيادة الوطنية وتبدلها بقيادة أخرى في السبعينيات والثمانينيات انقلب المشروع القومي رأساً على عقب رغم حرب أكتوبر 1973، وتم تدميره كلية واتهامه بأنه كان شيوعية وإلحاداً وتبعية للاتحاد السوفييتي، ونظاماً شمولياً ديكتاتورياً. وتحول إلى ثورة مضادة من داخل النظام نفسه، والقيادات نفسها إلى تحالف مع الاستعمار واعتراف بالصهيونية، وتصفية للقطاع العام، وتخلٍّ عن الإصلاح الزراعي، وانتشار التعليم الخاص، وتأسيس الجامعات الخاصة، فالرأسمالية لم تعد جريمة. وانقلب الشعار من"ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار" إلى "فيلا وعربة لكل مواطن". وفتح باب الاستيراد باسم الانفتاح، وعمت البضائع الاستهلاكية وقل الإنتاج. وانعزلت مصر عن العرب، وخرجت عن سياساتها الوطنية الثابتة. وخرجت مع العرب من معادلة النظام العالمي الجديد. ثم اختلف الرفاق في اليمن الجنوبي، واقتتلوا في عدن باسم الماركسية التي تحطمت على حدود العشائرية. ودخلت في حلف مع حزب البعث في سوريا والعراق، فبررت النظم التسلطية، وتخلت عن مبادئها الماركسية لحساب الحزب الحاكم. وأصبح رجالها هم النخبة الحاكمة يتمتعون بمزاياها، لا فرق بين يسار ويمين، بين ماركسية ورأسمالية. وانضوى البعض تحت كنف الاتحاد السوفييتي يأتمر بأمره، وأصبح ضمن الشيوعية الدولية، ويطرح الكوسموبوليتانية وينسى الطرح الوطني حتى بدوا وكأنهم تبع للغرب الثقافي باسم الشرق الشيوعي. عادوا للثقافة الوطنية وقلدوا التجربة الأوروبية وكأننا ألمانيا وإنجلترا وفرنسا إبان الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. كأن الدين أفيون الشعب وليس صرخة للمضطهدين، الدفاع عن حقوق العمال، مع أن الأغلبية لدينا فلاحون. السلوك الشخصي للرفاق معادٍ للشريعة في مجتمع ما زالت القدوة الحسنة للقادة هي المدخل لقلوب الناس وحركة الجماهير. وبعد انهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية ثم في الاتحاد السوفييتي نفسه، انهار المركز فضاعت الأطراف. انهارت النظم الشمولية والفلسفات المادية الداروينية وإن بقيت الاشتراكية كمثل أعلى للشعوب. فشلت الوسائل وبقيت الغايات. وزادت شماتة الناس في الشيوعية والاشتراكية. وحجة الواقع في النهاية أبلغ من حجة الفكر، فالعمل أصدق دليل على النظر. بماذا إذن يؤمن الشباب؟ وبأي من التجارب تؤمن الناس في المجتمعات الإسلامية المعاصرة: الليبرالية أو القومية، أو الماركسية، أو الإسلام المحافظ؟ لقد ألغى بعضها بعضاً بمنطق الفرقة الناجية! وبمنطق الاستبعاد نفسه، تقدم الجماعات المتطرفة نفسها على أنها الحل، أو البديل عن الأيديولوجيات العلمانية للتحديث وعن الإسلام العادي.