كان في مقدمة الأهداف الحالمة التي داعبت خيال رواد الإنترنت الأوائل هي تسهيل التواصل، ومشاركة المعلومات والأخبار، بشكل حر وفي وقتها الحقيقي، ودون أية قيود أو حدود، ولكن بعد مرور أربعين سنة الآن لا تزال الحكومات واللاعبون الكبار الممسكون بقواعد اللعبة الشبكية يتحكمون في طريقة دخول الأصوات وخروجها، وآليات البث وحدود انسياب المعلومات على الإنترنت، ضمن معادلة صعبة توازن بين مقتضيات الرقابة اللازمة على العالم الافتراضي، وضرورات احترام حرية التعبير، والخصوصية، والحريات الشخصية. وأكثر من ذلك تحولت الشبكة العنكبوتية أيضاً إلى حلبة لصراعات المصالح والسياسة، ما جعلها تستقطب كافة ما قد يخطر على الذهن من أنواع الفاعلين والنشطاء، على نحو أعاد التأكيد مجدداً على ضرورة إيجاد قواعد لعبة تضبط ظاهرة الانفلات الشبكي، وحالات التعدي على الحقوق والحريات الشخصية، والعامة، ولذلك أصدرت معظم الحكومات قوانين خاصة بالعالم الافتراضي الشبكي، لمحاربة الجريمة الإلكترونية، ولدعم الحقوق وحمايتها من أية تعديات محتملة. كما ظهرت أجيال متتابعة من منتهكي تشريعات ونظم الشبكة العنكبوتية، ومخترقي خصوصية المعلومات والمواقع، هم ما اصطلح على تسميتهم بالقراصنة أو "الهاكرز". وقد أخذت جماعات الهاكرز مع مرور الوقت أشكالاً راوحت بين التعدي الفردي، أو البسيط على الخصوصيات الشبكية، والتعدي والانتهاك المنظم، والمسيس أحياناً المتحدي للتشريعات والنظم، وهذا النوع الأخير هو الذي خصصت له الصحفية الفرنسية آمايل غويتون كتابها الصادر مؤخراً تحت عنوان: "الهاكرز: في قلب المقاومة الرقمية"، وفيه تحقق في دهاليز العوالم السفلية للهاكرز، وخاصة منهم ذلك النوع النشط في المطالب ذات الطابع المسيَّس، وهو نوع برز خلال الفترة الأخيرة باعتباره تحدياً جديداً، وأصولية رقمية بازغة تفرض على الحكومات التصدي لها والتفكير في كيفية احتواء بعض أحلامها الطوباوية، الراديكالية، خاصة منها الاستجابة لمطلب توفير أكبر قدر ممكن من حرية التعبير والتواصل دون رقابة كثيفة على الشبكة. وترى الكاتبة أن الجيل الأخير من قراصنة الشبكة يتميز بأنه ولد تقريباً وبين يديه أجهزة حاسوب، وهو الأكثر معرفة بما في الشبكة من مزايا، وما فيها من محاذير، كما أنه هو الأكثر انخراطاً في محاولات تجييرها على نحو عولمي لتحقيق غايات مطلبية أو سياسية، وهو ذاته الجيل الذي دعم من قارات مختلفة موقع ويكيليكس، ونشطاء الحراك العربي في دول شمال أفريقيا، كما قاد الحملة التعبوية الشبكية في الدول الأوروبية ضد القوانين والتشريعات الضاغطة والضابطة لتدابير الأمن. كما نشط بعض أفراد هذا الجيل أيضاً ضمن ظاهرة ما يسمى "المواطن الصحفي" في نقل صور المعاناة والكوارث في أركان الدنيا الأربعة، وكان لنشطاء الإنترنت في ذلك دور كبير، أصبحت كبريات وسائل الإعلام التقليدي تعتمد عليه كمصدر أساسي لتلقي المعلومات والأخبار، وإعادة بثها وضخها للجمهور التقليدي العادي، غير الشبكي. وتغوص الكاتبة بين دفتي كتابها الواقع في 245 صفحة في عوالم بعض جماعات ومواقع القراصنة الرقميين لتطالعنا بأسماء باتت مألوفة إلى حدما مثل أنونيموس، وويكيليكس، وتليكوميس، وحزب القراصنة، ونادي فوضى الكمبيوتر، وأسماء وصِفات أخرى من هذا القبيل، لا جامع يجمعها سوى الإبحار عكس التيار على الشبكة، أو محاولات كسر احتكار الرقابة، أو حتى تسريب معلومات الحكومات كما هو حال موقع ويكيليكس الذي تمكن من من تسريب مئات آلاف الوثائق الرسمية والمراسلات بين البعثات الأميركية ووازرة خارجيتها، والذي يواجه صاحبه جوليان أسانج مصاعب جمة مع بعض الحكومات الغربية، انتهت به لاجئاً مختبئاً بعد مطالبة الحكومة السويدية بتسلمه على خلفية اتهامات جنائية. وعلى ذكر أسانج تستوقف الكاتبة خاصة حملة النشطاء الرقميين على صعيد عالمي لدعم قضيته ضمن أشكال النشاط الشبكي المعولم ذي الأهداف السياسية، خاصة أن قضية أسانج بالذات تتصل بأكثر الديباجات التي يبدي نشطاء الأصولية الراديكالية الرقمية من الهاكرز تعلقاً معلناً بها وهي قضية حرية التعبير، التي يبررون بها استمرارهم فيما سمته الكاتبة بـ"المقاومة الرقمية"، أي جهود الممانعة في وجه محاولات مصادرة الرأي والحق في الإخبار ونشر المعلومات والأخبار. وفي الأخير تدعو المؤلفة غويتون إلى النظر إلى عالم الهاكرز نظرة تتفهم دواعي المطالبة بحرية شبكية في حدود التشريعات من جهة، وتفهَم من جهة أخرى أيضاً خلفيات الجموح والانحراف المتوقعة أصلاً في عالم فضفاض، ينشط فيه، كل من هب ودب، تحت دعاوى ودعايات فيها كثير مما هو حقيقي، وأكثر مما هو زائف. حسن ولد المختار ------- الكتاب: الهاكرز: في قلب المقاومة الرقمية المؤلفة: آمايل غويتون الناشر: فوفير تاريخ النشر: 2013