كثيراً ما تكون هناك أدوار لرجال مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف.بي.آي» في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية البوليسية، بحيث يمكن القول إن كل من يهوى مشاهدة تلك النوعية من الأفلام والمسلسات، بات لديه تصور ورأي معين عن ذلك الجهاز الخطير، وهو رأي يتأثر بالصورة المقدمة عنه في تلك الأعمال الفنية. أما في الواقع العملي، فإن مسؤولية المكتب تنحصر في كشف المجرمين وتقديمهم للعدالة في الولايات المتحدة. لكن هناك مهمة أخرى برزت للجهاز مؤخراً وتناولتها وسائل الإعلام، وهي تقديم عدد من المجرمين المصطنعين إلى العدالة. والمهمة الجديدة هذه هي محور تركيز «تريفور آرونسون»، زميل برنامج الصحافة الاستقصائية في جامعة كاليفورنيا، ومنتج برنامج عن عمليات «إف.بي.آي» في مجال مكافحة الإرهاب، في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان «مصنع الرعب... داخل حرب إف.بي.آي المصطنعة على الإرهاب»، والذي نعرضه هنا. يستقصي آرونسون المهمة الجديدة للجهاز، ويقوم بالتأريخ لسعيه للقبض على الإرهابيين داخل الولايات المتحدة، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، عبر استخدام مخبرين يتقاضون رواتب سخية تنحصر مهمتهم في توريط المسلمين في خطط إرهابية مختلقة. والأشخاص الذين يجدون أنفسهم متورطين في تلك المؤامرات المدعاة، ويتم القبض عليهم لا تكون لديهم الوسائل أبداً ولا الفرصة، ولا حتى الرغبة في مواصلة لعبة التوريط هذه لولا وجود المخبرين الذين يسدون عليهم سبل النجاة. والهدف الرئيس لهؤلاء المخبرين كما يقول مؤلف الكتاب هو توريط المسلمين في مؤامرات وهمية سعياً للاستمرار في العمل في الجهاز، وفي تقاضى الرواتب السخية، دون أدنى اعتبار لمصائر الأشخاص الذين يتم إيقاعهم في الفخ. ويقول آرونسون إن بعض هؤلاء المخبرين لا يكتفون بتلك الرواتب، بل يعملون على زيادتها عبر استخدام صفتهم الأمنية في ممارسة أنشطة ممنوعة، ويقول إن بعضهم قد تورط في ارتكاب جرائم، مثل شراء الهيروين بقصد الاتجار فيه، وتم القبض عليهم بناءً على بلاغات من زملاء لهم. ورغم ذلك سُمح لهم بالبقاء ضمن كشوف رواتب «إف.بي.آي» لمواصلة المهمة القذرة التي يقومون بها. ويكشف المؤلف أن بعض المخبرين تم إجبارهم على العمل بهذه الصفة في الجهاز، بواسطة عملاء المكتب الأصليين الذين يستخدمون المعلومات التي يحصل عليها هؤلاء الأشخاص بحكم طبيعة عملهم، وحقيقة أن بعض هؤلاء الأشخاص يكون متورطاً بالفعل في جرائم صغيرة فيتم إغراؤهم بالعمل في المكتب كمخبرين مقابل غض الطرف عن تلك الجرائم، مع إبقاء ملفاتها جاهزة لإعادة فتحها في أي وقت يفكر فيه أي من هؤلاء المخبرين في التحرر من براثن الجهاز، والعودة لحياته الطبيعية كشخص عادي وشريف. ويتساءل المؤلف: ما السبب الذي يدعو للسماح بحدوث تلك الأشياء داخل «إف.بي.آي»؟ ويجيب بالإشارة إلى المخصصات المالية الهائلة التي خصصت للمكتب من أموال دافعي الضرائب، لممارسة دوره في مكافحة الإرهاب وحماية المجتمع، إذ ينتظر الجميع من المكتب أن يحقق نتائج ملموسة في مكافحة الإرهاب. ففي سياق محاولة مسؤولي الجهاز لتحديد ماهية الأنشطة التي ينفقون عليها تلك المخصصات المالية الضخمة، وتبرير الأسباب التي جعلتهم لا يحققون نتائج ذات شأن في مجال مكافحة الإرهاب، كانوا يختلقون مؤامرات وهمية، ويورطون فيها أشخاصاً عاديين على النحو الذي سبقت الإشارة إليه. والخطورة في نظر المؤلف أن تصرف المكتب على هذا النحو، أي اختلاق المؤامرات وتوريط الأبرياء، يمس تقريباً كل شخص في الولايات المتحدة، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. ويرى آرونسون أن «إف.بي.آي» أساء لسمعته، وساهم في خلق حالة من عدم الثقة لدى الأميركيين العاديين في نوعية الأنشطة التي يقوم بها، وفي حالةٍ من الشك العميق نتيجة التحايل الذي مارسه، عندما قام بتحويل المخصصات المالية الضخمة المرصودة لمصلحته لمكافحة الإرهاب الداخلي الحقيقي وغيره من المشكلات الأمنية، وانشغل بتدبير مؤامرات وهمية بغرض خلق الانطباع بأنه يقوم بدوره بكفاءة. ويسرد المؤلف بعض القصص المؤلمة لأشخاص تم توريطهم بواسطة عملاء المكتب. وما يمكن قوله أخيراً أن هذا الكتاب جاء في وقته تماماً، حيث إن العديد من القضايا الواردة فيه مازالت تحتل العناوين الرئيسية للصحف، كما أن توقيت صدوره يتوافق مع وقوع حادث تفجير ماراثون بوسطن الذي وجهت بسببه انتقادات شديدة للجهاز لعجزه عن التعامل مع المعلومات التي قدمت له من قبل السلطات الروسية حول «تامرلان تسارناييف»، كما وجهت له اتهامات من قبل والدة المشتبه في تنفيذهما التفجير بتوريط ولديها في الحادث. سعيد كامل ------- الكتاب: مصنع الرعب... داخل حرب إف.بي.آي المصطنعة على الإرهاب المؤلف: تريفور آرونسون الناشر: آي جي بابليشنج تاريخ النشر: 2013