منذ تفجر «الربيع العربي» عن حال لا يسر مفجريه قبل معارضيه، وتولي الإسلام السياسي السلطة في أكثر من بلد عربي، تفجرت من خلال ذلك حرب للأفكار باردة قد تطول إذا أقحم الدين في سياسة تلك الدول. خرجت أميركا من العراق، وستخرج في 2014 من أفغانستان، وما بين ذلك دخلت الأزمة السورية على الخط الساخن حرباً مستمرة لأكثر من عامين، إلا أن العالم في هذه الفترة الحرجة وبعد وصول أوباما إلى سدة الحكم في أميركا، وانتهاء عهد بوش الأول والثاني لم تعد الأحادية القطبية مجدية، ولم يعد العالم يملك قراراً واحداً، وعلى رأسه المنظمة الدولية التي كانت في الصورة في كافة الحروب السالفة الذكر، غير أن الوضع السوري أربك المعادلة العالمية مع أن الميدان حربي بحت، إلا أن الفكر الذي يعالج هذه الأزمة الثائرة في سوريا لم يعد موحداً فانشق المجتمع الدولي شقين غير متساويين، حيث وقفت روسيا والصين ضد استخدام القوة لإنهاء الأزمة وحسمها، والعالم الغربي الذي يقف مع حق الشعوب لم يتقدم خطوة إلى الأمام لأن عربة المصالح الدولية الكبرى قفزت أمام الحصان الدولي الذي لا يملك قراراً يتحول من خلاله إلى حصان طروادة للبت في الحسم. وفي خضم هذه الحروب الساخنة بدرجة اللهيب، إلا أن "الربيع العربي" أدخل في وسط هذه الحروب التي لا تزال مشتعلة بصورة وأخرى، سواء تحت مسمى محاربة الإرهاب أو الأصولية والطائفية، فقد قفزت إلى السطح العربي حرب فكرية باردة من نوع آخر لم نعهدها من قبل، خاصة أنها تحمل لواء قلب الطاولة المستقرة في بعض الدول العربية التي لم تتأثر بهذا الربيع المعكوس، والخليج جزء من ذلك وفق مخطط وأجندات الإسلام السياسي بكل فسيفسائه من إخوانية، طالبانية، جهادية، سلفية... إلخ. والفوضى العارمة التي أزمت "الربيع العربي" عامل مساعد على تسييل الوضع السياسي في العالم العربي، وبناء عليه يصعب اتخاذ قرارات حاسمة في أوضاع غير محسومة، لأن سلاح الفكر التأصيلي هو الذي يدير هذه الحرب الباردة، فعلى مستوى الدول العربية التي وقعت أسرى بين يدي فكر عاش طوال تاريخه يمثل دور الضحية، جاء دوره لكي يضحي مرة بالوطن جملة وتفصيلاً، حكومات وشعوباً. فإذا كان هناك من يظن أن ظلماً وقع خلال العقود الماضية على فكر معين قد يكون بسبب من عند اتباعه وطريقة تعاملهم الصدامية مع السلطات التي توالت على دولهم، فإن المنطق المستبعد الآن من الساحة العربية المقلوبة، عدم الإصرار في جعل الموجودين على الساحة الفكرية من الليبراليين والعلمانيين واليساريين، وحتى الشرائح الإسلامية البعيدة عن الأدلجة السياسية وخلطها بالدين، أيضاً ضحايا لعهود مضت. فأصل "الربيع العربي" وقع لكي ينفع الجميع بلا استثناء وأما أن تصير الأمور إلى جعل "الإسلامي" في المقدمة، وكل من يختلف معه يكون مكانه في المقعد الأخير من هذا العرض المسرحي التراجيدي، أو في هامش لا يرى في عين السياسة شيئاً ذا اعتبار. فإن هذه الحرب الباردة إلى درجة السخونة قد تتحول إلى حرب ساخنة تؤججها النبرة الطائفية والمذهبية، وقد بدأت بوادرها في مصر العرب بكل مكوناتها الدينية والحزبية والفكرية، فلما يصر الفكر المؤدلج على تحويل الفكر إلى صناديق باردة، ولكنها مليئة بالبارود الذي لا يبقي لأحد فكراً سليماً إذا اشتعل، احترق الوطن الذي يراد أن يكون وقوداً لهذا «الحريق العربي».