مع صراع كثيرين في مصر على السلطة وقبلها على الفكرة الدينية، رضيت أغلب القوى السياسية أن تلتقي تحت راية الأزهر الشريف، لتتمكن من إنتاج أربع وثائق مهمة عن المرأة، والحريات العامة والحقوق الأساسية وحرية الإبداع ونبذ العنف. وكلها محاولات من هذه المؤسسة العريقة ذات المكانة العلمية والروحية في "تسهيل" التقدم نحو "التوافق" الاجتماعي والسياسي، ونزع فتيل الاحتقان لمنع انفجاره في وجوه الجميع ناراً تلظى لعنف ليس له من دون الله كاشف. وليس هذا بغريب على الأزهر الذي يذكر الجميع دوماً أن أروقته شهدت على مدار تاريخ طويل تدريس المذاهب الإسلامية وآراء مختلف الفرق من دون تعصب ولا تزمت، حيث قدمها على أنها إما جزء من "تاريخ العلم الديني" على الآخرين أن يعرفوا ما أتى به الأولون في متنه وحواشيه، أو كجزء من شروط "الطقس الديني" الذي به يتم الالتزام عند كثير من عموم الناس ونخبتهم. ولكن الأزهر ظل طيلة الوقت في خط الدفاع الأول عن "المذهب السني" فهو مرجعيته الأولى في العالم أجمع، وهو بهذا يسهم في تأمين مصر من صراعات مذهبية قد تنشأ مستقبلًا، لتزيد الطين بلة. لقد تم تغييب الأزهر طويلًا عن الساحة الاجتماعية لثلاثة أسباب أساسية أولها: رهن إرادته في كثير من الأحيان بإرادة السلطة السياسية، وهذه آفة عمرها نحو نصف قرن، حين صدر قانون الأزهر، ووضعت عليه، جامعاً وجامعة، يد جهاز الدولة التنفيذي. وثانيها: تراجع المستوى التعليمي للأزهر، وانصراف جزء لا يستهان به من طاقته إلى التعليم المدني، فتخرج منه مدرسون ومحاسبون وأطباء ومهندسون ناجحون، ولكن بخل على المجتمع بعلماء دين راسخين، إلا فيما ندر، الأمر الذي أفسح المجال لحفظة الكتب القديمة أن يتسللوا إلى معتقدات الناس وتصوراتهم وطقوسهم الدينية وفق مسار بعيد عما تآلف معه الأزهر. وثالث الأسباب هو: ضيق ذات اليد، فميزانية الأزهر ضعيفة لا تكاد تكفي التزاماته، بينما تدفقت على التيار السلفي وجماعة "الإخوان" مليارات الدولارات على مدار عقود من الزمن، استخدموا جزءاً منها في خدمة خطابهم الديني، ونجحوا في جذب كثيرين إليه، علاوة على ما وقع في حجورهم من دون بذل أي جهد جراء تأثر المصريين العاملين في السعودية، على وجه الخصوص، بالحالة الدينية هناك، تعبيراً وتدبيراً. وبعد الثورة، وفي ظل ما نعيشه الآن من فوضى للفتاوى وتوظيف للدين في خدمة السلطان بلا رادع ولا وازع ولا حتى علم ويقين، أصبح من الضروري أن نساعد جميعاً الأزهر على أن يستعيد دوره، ويعزز ما تبقى له من حضور في رؤوس الناس وقلوبهم، ويتمدد ليملأ الفراغات التي تركها خلفه، واحتلها غيره، ويريد أن يتأبد فيها، ويدافع عنها ببالغ الجهد والمال، لأنه يدرك أنها الركيزة التي يقيم عليها وجوده ومصالحه، ويستخدمها ليحافظ على السلطة. ومن أجل ذلك رأت مجموعة من المنشغلين بالهمّ العام، الراغبين في ألا ينحرف التديُّن عن الوسطية، وينحرف الخطاب الديني عن الاعتدال، وتنزلق النوايا عن الاستقامة، أن يمدوا أيديهم لهذه المؤسسة العريقة، ولو بالنزر اليسير، فكوّنوا جبهة لدعم الأزهر، سعوا لتصبح "مؤسسة أهلية" تمثل ظهيراً شعبياً له، مستقلاً تماماً عنه، ولكنه يساعد، على قدر المُكنة والاستطاعة، في أن يستفيد مجتمعنا من الطاقة الكامنة والمهملة، بفعل فاعلين، للأزهر، بحيث لا يقتصر اتصاله على الأحزاب السياسية التي تجتمع للتحاور في مقر المشيخة أحياناً، فالأحزاب جميعاً لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من عموم الشعب، بل تنفتح علاقاته على الناس، ويكون هو صوت الدين إليهم، الذي تاقوا طويلًا إلى سماعه. ولي شرف أن أكون واحداً من بين هؤلاء الذين ذهبوا وقابلوا فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وناقشوا معه ما يمكن لتلك المؤسسة أن تقدمه لخدمة مسار الأزهر ومهمته الجليلة، لاسيما في السنين المقبلة. ويومها أنصتنا إليه وهو يشرح أوجاع الأزهر ومشكلاته، فوضعنا أيدينا على ما يمكن أن نسهم به، وما يمكن أن يكون نواة صلبة أو نقطة جاذبة لكل من يريد لأزهرنا رفعة وعلواً، في وجه كل من تسوّل له نفسه أن يسيطر عليه فيوجهه نحو رؤية فقهية واحدة، يزعم أصحابها أنها الحق أو الطريق المستقيم، ويستعمله في أن يكون مجرد بوق لتجميل قبح السياسة وشططها وخطل السلطة وتجبرها. والهدف الرئيسي للمؤسسة هو مساندة الأزهر أو مساعدته على أن يؤدي رسالته بقوة واقتدار، أما الوسائل فهي عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، تنظيم قوافل دعوية يختار الأزهر الواعظين والدعاة فيها وتجوب مصر، من أقصاها إلى أدناها، ليسمع الناس صوت الأزهر المعتدل بعد طول غياب أو تغييب، وهي قوافل تقوم بمهمتين في وقت واحد، تصحيح الخطاب الديني بعد ما ناله من تشويه، وتثبيت إيمان عوام الناس، بعد أن اهتز إثر ما ارتكبه "الإخوان" وبعض السلفيين من أخطاء وخطايا، أنعشت -للأسف والحسرة الشديدة- دعاوى الإلحاد، وأوجدت أرضية للتفلت أو التحلل من الالتزامات الدينية عند بعض الشباب، ممن يربطون الدين بالأشخاص والإيمان بالمشايخ. وهناك أيضاً اعتزام على إصدار مجلة دورية تنشر دراسات ومقالات معمقة تنطوي على رؤية دينية معتدلة، تفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وتستجيب لأسئلة الواقع. وهناك نية لإصدار كتب في طبعات شعبية، بأسعار زهيدة، لنشر مثل هذا الفكر. ويعد البعض حالياً أفلاماً وثائقية عن الأزهر وبعض المسارات والرؤى من تاريخ الفكر والفقه الإسلامي المستنير، وهناك من يعد فقرات قصيرة متلفزة يعلق فيها الأزهريون على ما يطلبه الناس من علماء الدين من فتوى في أمور حياتهم العامة، وهناك من يؤسس لموقع للمؤسسة على شبكة الإنترنت يستكتب علماء الأزهر، وينشر آراءهم وفتاواهم ويفتح الباب أمام الجمهور لحوار بناء حول المسائل والقضايا الدينية. وربما يتاح المال والجهد مستقبلاً لمساعدة الأزهر على إطلاق قناة فضائية يشاهدها ويتابعها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. وهناك عشرات الأفكار الأخرى التي يعتزم مجلس إدارة المؤسسة أن يتبناها بمرور الوقت ومواصلة الجهد وتوافر الإمكانات، ولاسيما أن المؤسسة مفتوحة أمام كل من يريد أن يساند الأزهر لينضم إليها أو يساعدها بما في وسعه.