أقتبس عنوان هذا المقال من البحث الذي ألقيته في الملتقى الفكري الأول الذي عقدته "المجلة المصرية للتنمية والتخطيط" التي يصدرها معهد التخطيط القومي، وذلك يومي 29-30 أبريل 2013. وقد كان عنوان الملتقى الذي أشرف على إعداده الدكتور "خضر أبو قوره" أستاذ علم الاجتماع هو "مأزق التنمية في الواقع المجتمعي المعاصر: أنساق القيم نموذجاً". واخترت عنواناً فرعياً لموضوع "انقلاب القيم بعد الثورة" يلخص في عبارة مفردة الأطروحة الرئيسية في البحث وهي "من الانصياع الكامل إلى التمرد المطلق". وقد صغت هذه العبارة بعد تأمل عميق للأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية قبل الثورة وبعدها. أما "ما قبل الثورة"، فقد رصدت فيه حالة الانصياع الكامل من قبل النخبة والجماهير للحكم السلطوي الغاشم للرئيس السابق، أو بعبارة أخرى الاستسلام للسياسات المنحرفة التي انتهجها النظام، ولم يبدأ التمرد النسبي عليه إلا في السنوات العشر الأخيرة من حكمه الثلاثيني، حين ظهرت حركة "كفاية"، وغيرها من الحركات الاحتجاجية. وقد آثرت في بحثي الذي ألقيته في معهد التخطيط القومي وبعد تأمل طويل في ظاهرة انقلاب القيم التي تجلت في المظاهرات المليونية والاحتجاجات الفئوية، أن أعالج الموضوع أولاً من خلال الإشارة الموجزة لصعود وسقوط النماذج المعرفية العالمية، وبزوغ ما أطلقت عليه "الثورة الكونية" بأبعادها الأربعة، وهي الثورة السياسية، ونعني الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية والليبرالية، مع رصد ظاهرة سقوط فكرة الزعامة السياسية وتشكيل أحزاب سياسية جديدة، مثل حزب "الخضر" في ألمانيا في الستينيات، لا تؤمن بالقيادات السياسية التي تتربع على عرش قيادات الأحزاب إلى الأبد، وإنما -على العكس- تؤمن بالقيادة الجماعية التي تتغير كل عامين على الأكثر، وهذا ما طبقته بالفعل حركة "كفاية" قبل الثورة، حيث نصت لائحتها على أن يتغير المنسق العام لها كل عامين. وهذا هو ما يفسر لماذا كانت ثورة 25 يناير بلا قيادة، وذلك لأنه تم الحشد الإلكتروني لها -إن صح التعبير- على شبكة الإنترنت التي ينص قانونها الأخلاقي غير المكتوب على أنه لا رئيس ولا مرؤوس في الشبكة، وإنما يتم التفاعل بين أفراد متساوين. والبعد الثاني من أبعاد الثورة الكونية، هو الثورة القيمية، التي تعني الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية. أي التحول من التركيز على إشباع الحاجات الأساسية للإنسان إلى إشباع الحاجات المعنوية، كالدفاع عن الكرامة الإنسانية والاهتمام بإشباع الحاجات الروحية، وهذا يفسر النزوع إلى التدين في مجتمعات شتى تنتمي إلى ثقافات متعددة، وفي رحاب الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام. وهذا يفسر أحد أسباب ثورة 25 يناير التي كان من بين الوقود الثوري الذي أشعلها موقع "كلنا خالد سعيد" على شبكة الإنترنت، وقد أداره سراً وائل غنيم أحد قيادات ثورة 25 يناير للاحتجاج على التعذيب الذي لقيه خالد سعيد على يد الشرطة في الإسكندرية ووفاته نتيجة لذلك، وتحوله إلى "إيقونة" من إيقونات الثورة المصرية تماماً، مثل البوعزيزي الشاب الجامعي التونسي الذي أحرق نفسه، بعدما أحس أن الشرطة قد جرحته في كرامته. والثورة الثالثة هي الثورة المعرفية التي تعني الانتقال من عصر الحداثة التي قامت على أساس بروز الفرد بحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعقلانية، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وتبني نظرة خطية Linear للتاريخ الإنساني تذهب إلى أنه سيتقدم من مرحلة إلى أخرى. وتم الانتقال إلى عصر ما بعد الحداثة الذي تعبر عنه تماماً ظاهرة العولمة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهي تسعى إلى تذويب الحدود بين الدول وإطلاق سراح الاقتصاد ويعبر عنها التعريف الإجرائي الذي صغته لها وهو أن العولمة "هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار ورؤوس الأموال والسلع والبشر من بلد إلى بلد من دون قيود ولا حدود". والثورة الخامسة هي الثورة الاتصالية، وأبرز تجلياتها البث التلفزيوني الفضائي وظهور شبكة الإنترنت، باعتبارها فضاءً عاماً جديداً يتاح فيه لمواطني العالم -إن صح التعبير- أن يتفاعلوا مباشرة بغير حدود ولا قيود. وهي تعبر عن حركة الانتقال العظمى من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي Cyber Space. والأهمية القصوى لهذه الثورة الاتصالية أنها لعبت الدور الحاسم في ثورات "الربيع العربي"، وقد تم الحشد الإلكتروني لثورة 25 يناير على شبكة الإنترنت، حيث حدد موعد النزول إلى ميدان التحرير باليوم والساعة، وتم تبادل الرسائل الإلكترونية من النشطاء السياسيين الذي أشرفوا على التخطيط، وقاموا بالتنفيذ باستخدام أسماء مستعارة. وقد قامت الثورة أولاً في تونس، ولحقتها بعد أسابيع قليلة الثورة في مصر. وقد أدى اندلاع الثورة في تونس إلى سقوط النظام الاستبدادي، وهروب بن علي إلى الخارج خوفاً من المصير الحتمي الذي كان سيلاقيه، وهو نفس ما حدث في مصر بعد سقوط النظام وإعلان مبارك تنحيه وتوجهه اختيارياً إلى شرم الشيخ، باعتبارها منفى اختيارياً له، قبل أن يقدم إلى المحاكمة الجنائية الشهيرة. ويبقى السؤال الرئيسي الذي طرحناه في محاضرة معهد التخطيط القومي، ما هي طبيعة الانقلاب الذي حدث في القيم بعد الثورة، وكيف انتقلت النخب والجماهير من الانصياع الكامل إلى التمرد المطلق؟! يمكن القول للإجابة على هذا السؤال الاستراتيجي إن وقوع النظام الاستبدادي في مصر في أيام قليلة أعطى الجماهير ثقة مطلقة في قدراتها الكامنة على التغيير الراديكالي للنظام السياسي، والدليل على ذلك النجاحات المتوالية لها في تحقيق أهدافها، بعدما ارتفع في ميدان التحرير الشعار الشهير الذي أصبح فيما بعد إيقونة الثورة، وهو "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى أن سقط النظام بالفعل أمام أعين الجماهير مباشرة وفي العالم الواقعي. وسقط النظام ودخلنا في نفق المرحلة الانتقالية، حيث تشرذمت القوى الثورية إلى أن وصلنا إلى الانقسام السياسي الراهن بين الجبهة الدينية ممثلة في جماعة "الإخوان المسلمين" التي استطاعت أن تقفز على قطار الثورة المندفع وتهيمن على السلطة كاملة بمفردها، والجبهة الثورية والليبرالية التي تعارض سياسات "أخونة الدولة وأسلمة المجتمع". وفي غمار المصادمات الدامية بين الجماهير والأمن من ناحية، وبين أنصار الجبهات المتصارعة سقط شعار "السلمية"، وأصبح العنف هو سيد الموقف، واختلطت الثورة بالفوضى، وغلبت الانتهازية السياسية على سلوك النخب السياسية من كل الفصائل، وأصبح المواطنون العاديون يميلون إلى "البلطجية" في صورتها السياسية ويمارسونها بصور شتى تحت لافتات الثورة المغدورة!