«العراق وأفغانستان»، أول عبارة قالها «جوهر تسارناييف»، لم يقلها في الحقيقة، بل كتبها لأن حنجرته أصابها طلق ناري، عند ما حاول الانتحار، وفق ادعاء البوليس الأميركي. عُمْرُ «جوهر» 19 عاماً، وهو شيشاني يحمل الجنسية الأميركية، وصوره المنشورة وتغريداته تؤيد حكم زملائه في «جامعة ماساتشوستس» بأنه بالغ الحلاوة. ما الذي يعنيه العراق وأفغانستان لهذا الشيشاني الحلو حتى ينتقم هو وشقيقه «تيمورلانك» (26 عاماً) لما فعلته أميركا بالبلدين، بصنع «قنبلة وعاء الطبخ» وتفجيرها خلال سباق الماراثون في مدينة بوسطن، وكل ما للشيشان في بغداد زقاق صغير يسمى «دربونة التشيتشان» كما يلفظها البغداديون بحرفي التاء والشين المدغمين، وعندما يصفون جمال فتاة يقولون «حلوة مثل التشيتشان»؟ والمفزع بالنسبة للجمهور الأميركي ليس فقط عدد الضحايا الذي بلغ 3 قتلى وأكثر من 250 جريحاً، بل عودة الشقيقين إلى ممارسة حياتهما المعتادة بعد التفجير مباشرة، كأنّ شيئاً لم يكن؛ الأكبر يلاعب طفلته (3 سنوات) على دراجتها أمام المنزل، والأصغر يمارس التمارين الرياضية في سكن الطلبة في جامعة ماساتشوستس، ويغرد في الإنترنت! وحسب شهود العيان كان كلا الشقيقين يبدوان هادئين، ولا يثير سلوكهما أي شكوك أو شبهات حول علاقتهما بالحادث. وخلال الأيام الثلاثة ما بين تفجير القنبلة ومطاردته من قبل البوليس، لم يتوقف «جوهر» عن تغريداته عبر الإنترنت، والتي بدأها بالسؤال: «ألا مِنْ حب في قلب هذه المدينة، سلامتكم يا ناس!». ستيوارت تويلمو، أستاذ علم النفس في «كلية بايلور للطب» في هيوستن، ذكر أن العودة السريعة لروتين الحياة بعد ارتكاب الجريمة أمر معتاد تماماً. وهذا في رأيه هو رد الفعل الانقطاعي للشقيق الأصغر الذي ظهر للعلن «منكراً ما قام به ومقتطعاً نفسه منه». كيف تدبّر «جوهر» ذلك وجميع معارفه يؤكدون أنه اجتماعي جداً، وغير وحيد أبداً، ويعترف هو نفسه في تغريدة ليلة التفجير: «أنا كما يبدو خال من التوتر»، وتغريدة أخرى عمن يسميهم «أناس يعرفون الحقيقة لكنهم يظلون ساكتين، وآخرين يقولون الحقيقة لكننا لا نسمعهم لأنهم الأقلية». واستحسن «جوهر» تغريدة تقول: «الجانب المحزن مما جرى اليوم في بوسطن هو ما ذكره أحدهم بأن مخرجاً في هوليود سيصنع فيلماً للتربح من الأحداث المأساوية». وذكر أنه سيعمل بنصيحة صديق «ويأخذ حماماً مثلجاً». وحملت تغريدة أخرى أبياتاً من أشهر مغني موسيقى الراب، وهو «أمينِم»، تقول: «هذه الأيام كل واحد يريد الكلام كما لو كان عنده ما يقوله، لكن لا شيء يخرج من بين شفاههم سوى بربرة». وعندما نشرت الشرطة صورة «جوهر»، كتب له صديق: «أنفجر ضحكاً... أهذا أنت؟ لم أعلم بأنك ذهبت للماراثون!». صانعو القرار في واشنطن أغلقوا كالعادة عقولهم عما جرى وانخرطوا رأساً في لعبة إلقاء اللوم على الوكالات الاستخبارية، واعتبار «التفجيرات فشلاً استخباراتياً»، حسب مجلة «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي. ولا ينكر الفشل ريشارد فولكنرث، رئيس جهاز مكافحة الإرهاب في شرطة نيويورك، والذي اعترف في حديث مع المجلة، بفشل عميلي مكتب التحقيقات الفيدرالي الذين حققا مع الشقيق الأكبر «تيمورلانك»، بناءً على معلومة استخباراتية من روسيا. ولا أجد أكثر تهذيباً في التعليق على مناوشات الأجهزة الأميركية من المثل الشيشاني: «لا يعرف الحمار أنه حمار إلا عندما يُجر من أذنه». وماذا يمكن قوله عن استشهاد فولكنرث بفضيحة قضية ضابط الاستخبارات الأميركي الباكستاني داوود الجيلاني، الذي اتهمته زوجته السابقة بالضلوع في منظمة إرهابية. ولم يسفر التحقيق معه عن نتيجة، وانخرط الجيلاني بعد ذلك مباشرة في العملية الإرهابية الكبرى في بومباي التي كان يحقق فيها! والمخابرات الأميركية تهدف دائماً في اعترافاتها للتغطية على فضيحة، وما أفضح من تغطية فشل أعتى المخابرات العالمية في قراءة مشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين الذين يتابعون بقلوبهم وعقولهم وصلواتهم الفتن الدموية الماكرة التي أطلقها غزو العراق. ملايين القتلى والجرحى والمشردين في العراق، والعدّاد انتقل للحساب في سوريا على قرع وعود واشنطن ولندن بتسليح المقاتلين. وما نقوله توصيف استخباراتي، وليس بلاغة كلامية. وإذا أرادوا نصيحة استخباراتية، فهي: تجنّبوا استئجار أكاديميين مهووسين بعبادة الفرد بالمقلوب، من نوع بول وولفوفيتز وكنعان مكيه. الأول مهووس بصدام حسين، حسب الرسالة المفتوحة التي نشرها أندريه بيسيفتش، زميله في «كلية الدراسات الدولية المتقدمة» في «جامعة جونز هوبكنز». وهوس وولفوفيتز يحتل نصف مقالته بمناسبة ذكرى الغزو؛ «ما الذي كان ينبغي فعله بصورة مغايرة في العراق». وأول ما كان ينبغي عليه فعله بصورة مغايرة هو أن ينحني أكاديمياً لملايين العراقيين ويعتذر منهم عن دوره في التنظير للحرب، وارتكاب جرائمها كوكيل لوزير الدفاع. والمطلوب من مكية بعد الانحناء والاعتذار إعادة أرشيف الدولة العراقية الذي نقله إلى أميركا خلال فوضى الغزو، وتطالبه به المكتبة العراقية العامة منذ سنوات دون جدوى. وثانياً أن يشرح للعراقيين كيف يمكن تطبيق نظريته العبقرية التي عرضها في مقالته بمناسبة ذكرى الغزو: «الولايات المتحدة كان بإمكانها إدارة تغيير النظام في العراق في 2003 بمجرد دفع رواتب الجنود العراقيين بالدولار بدلًا من تركهم يتقاضون تلك الدنانير المحدودة من بغداد»! وكما يقول المثل الشيشاني، «لا لوم على الشمس إذا لم تكن البومة تستطيع الرؤية في ضوء النهار». ولا لوم على الكاتب الأميركي توماس فريدمان الذي كرس مقالته هذا الأسبوع لحادث تفجير قنبلة بوسطن، وتساءل: لماذا ارتكب العمل الإرهابي شقيقان شيشانيان لا صلة لهما بالمنظمات الإرهابية؟ يعتبر فريدمان اعتراف «جوهر» بأنهما قاما بذلك رداً على ما فعلته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان «مقولة شائعة لدى الإسلاميين». ويفنّد المقولة بتوجيه «السؤال البسيط التالي: إذا كنت مستاءً من ذلك لماذا لا تبني مدرسة في أفغانستان لتقوية المجتمع، أو تنال شهادة جامعية بالرياضيات، وتصبح مدرساً في العالم الإسلامي لمساعدة الناس كي يصبحوا أقل تأثراً بالقوى الأجنبية». والمثل الشيشاني يقول: «إذا كنت ثعلباً فأنا ذيل الثعلب». وهل يجوز على ذيل الثعلب حديث فريدمان عن فرص «الترشيح للرئاسة كما فعل باراك أوباما، وهو ابن رجل مسلم»؟.. والبركة في باراك الذي أعلن قبل أن تطأ قدماه البيت الأبيض العفو عن مرتكبي جرائم الحرب ضد العراق، وابتلع بعد دخوله البيت الأبيض وعده بغلق معتقل غوانتانامو، حيث يُحتجز سجناء منذ أكثر من عشر سنوات دون محاكمة، ويدخل إضرابهم الاحتجاجي عن الطعام هذا الأسبوع يومه المائة.