في عام 1941 حث هنري لوس مواطنيه الأميركيين على تجنب العزلة، ودخول الحرب، وتحويل القرن العشرين إلى «قرن أميركا العظيم الأول». وتجسيداً لرؤيته، نجحت الولايات المتحدة في تحقيق إنجاز تاريخي تمثل في تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، تكريساً لانتصارها في الحرب العالمية الأولى، ثم إتباع ذلك بالانتصار في الحرب الباردة التالية. لو كان «لوس» حياً اليوم، لكان الإغراء قد دفعه لحث مواطنيه على جعل القرن الحادي والعشرين «قرن أميركا العظيم الثاني». لكن التحديات التي ستواجهها أميركا لتحقيق هذا الهدف ستختلف هذه المرة عن سابقتها، إذ ستشمل بالتأكيد: التحديات المناخية، انتشار أسلحة الدمار الشامل، الأمراض المعدية وغير القابلة للانتقال، الحمائية التجارية والاستثماراتية، الإرهاب، وتوفير احتياجات التسعة مليارات إنسان الذين سيعمرون كوكب الأرض خلال زمن ليس بالبعيد. وفكرة القرن الأميركي العظيم الثاني قد تبدو غريبة، إذا ما أخذنا في الاعتبار المشكلات الداخلية العديدة التي تعانيها الولايات المتحدة؛ مثل المدارس الرديئة، والبنية التحتية المتداعية، والديون المتصاعدة، والنمو الاقتصادي المنخفض... وأضفنا إليها لتحديات الخارجية مثل الإرهاب، وصعود الصين، وعداء كوريا الشمالية التي تمتلك «النووية»، وعداء إيران الساعية لامتلاك السلاح النووي. ورغم ذلك، نستطيع القول إننا قد بتنا بالفعل في العقد الثاني من القرن الأميركي العظيم الثاني. وفيما يلي ستة أسباب تبرر هذه المقولة: الأول: الولايات المتحدة هي الأولى عالمياً في الوقت الحالي، وسوف تظل كذلك لبعض الوقت مستقبلا. فناتجها القومي الإجمالي (16 تريليون دولار) يبلغ ربع الناتج الإجمالي للعالم، بينما لا يزيد هذا الناتج للدولة الثانية في الترتيب مباشرة، وهي الصين، عن 7 تريليونات دولار، فيما يزيد نصيب الفرد الأميركي من الدخل عن نظيره الصيني ما بين ست إلى تسع مرات. الثاني: ليس هناك منافس مقارب في القوة في الأفق؛ فقدرة الصين على ترجمة ثروتها المتزايدة، إلى نفوذ تحول دونها عوامل مثل: تدهور البيئة، وشيخوخة المجتمع، والاحتياجات الاجتماعية الجديدة، والنظام السياسي الأقل ديناميكية. الثالث: ليست لدى أي قوة عالمية كبرى القدرة على تحدي الولايات المتحدة: فالاتحاد الأوروبي رغم أن اقتصاده الكلي يزيد قليلا عن نظيره الأميركي، وعدد سكانه يفوق عدد سكان الولايات المتحدة؛ ينوء بمشكلاته العديدة، وثقافته المناوئة للعسكرة. واليابان مثقلة بالديون وسياستها في الهجرة تحول دون زيادة عدد سكانها والحصول على كفاءات ومواهب جديدة. وروسيا تظل مشدودة للخلف بسبب سياساتها الخارجية، علاوة على أن نظامها عبارة عن حكم أقلية متنفذة وليس نظاماً ديمقراطياً، واقتصادها ذو بعد واحد يعتمد على النفط والغاز والمعادن. الرابع: أن الولايات المتحدة لم تتصرف على الساحة العالمية بطريقة تستدعي تحدياً مباشراً: صحيح أن الشكوك والتساؤلات حول سياستها الخارجية عديدة وواسعة الانتشار، لكنها شكوك وتساؤلات تستدعى الشجب والانتقاد والرفض، والامتناع عن التعاون، لا المقاومة الصريحة. الخامس: الخصائص السكانية للولايات المتحدة، وإمكانيات النمو الاقتصادي المتجددة فيها، بالإضافة إلى مزاياها الداخلية: فقد حظيت الولايات المتحدة بمساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، وبمصادر هائلة من المياه العذبة، ومخزونات هائلة من النفط والغاز. أما عدد السكان فكبير، لكن ليس إلى الدرجة الذي يشكل فيها عبئاً على الموارد، علاوة على ما يتسم به هؤلاء السكان من تنوع نظراً لكونها الدولة الأكثر انفتاحاً في العالم. السادس والأخير: القدرة على العودة إلى مستويات النمو الاقتصادي المرتفعة، بسبب النوعية المتفوقة لتعليمها العالي، ووفرة رأس المال اللازم للمشروعات الجديدة، ومنظومتها القانونية التي تشجع على المخاطرة ولا تميل من دون داع لمعاقبة الفشل، بالإضافة إلى تشجيعها للابتكار والإبداع. على أننا يجب أن نضع في اعتبارنا أنه ليس هناك شيء حتمي، بشأن سيطرة أميركا على القرن الجديد، ذلك لأن المزايا التي تتمتع بها هذه الدولة ليست دائمة، ولا هي كافية لضمان التفوق المتواصل. إذن ما هو المطلوب عمله؟ هناك قائمة جزئية بذلك تشمل: إصلاح نظام التعليم العام المعيب، وإصلاح أو استبدال البنية التحتية الموجودة، وتحديث سياسات الهجرة، وإصلاح نظام الرعاية الصحية، والتفاوض على اتفاقيات تجارية جديدة، وتخفيض الضرائب المؤسساتية، وكبح جماح الإنفاق على الاستحقاقات، وتخفيض الدين كنسبة من الناتج القومي الإجمالي. أما في الخارج فيتطلب ذلك: تجنب حروب الاختيار، وخصوصا عندما تكون المصالح المعرضة للخطر «أقل من حيوية»؛ ويكون هناك بديل لاستخدام القوة، وسوف يتضمن هذا حتماً قبول فكرة أننا لا نستطيع صياغة المجتمعات الأخرى على صورتنا. إن البديل للقرن الحادي والعشرين الذي تقوده أميركا ليس عصراً تهيمن عليه الصين، أو أي قوة أخرى وإنما زمنا تسوده الفوضى، تغرق فيه المشكلات الإقليمية والعالمية إرادة العالم الجماعية وقدرته على مواجهتها. وأميركا لن تكون آمنة ومزدهرة في مثل هذا العالم بالطبع. لقد عشنا من قبل من العصور المظلمة ما يكفي، وآخر شيء نحتاجه الآن هو أن تعود مثل تلك العصور مجدداً. ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ينشر برتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»