ذكرت لي صحافية سورية مقيمة في بيروت من منطقة الجزيرة كيف استطاعت المشيخة القبلية في هذا الإقليم الذي خرج مبكراً عن سيطرة النظام، ترتيب الأوضاع، بما سمح بالحد الأدنى من الاستقرار والتماسك الاجتماعي في بلد مفكك الأوصال، غابت فيه السلطة المركزية. ذكرت لي الصديقة أن مناطق عديدة من سوريا تعرف راهناً الاستفاقة القبلية نفسها، بعد أن كان الانطباع سائداً بأن التركيبة القبلية قد انحسرت وعوضتها الدولة الوطنية الحديثة. في العراق مشهد مماثل، سواء تعلق الأمر بقبائل الجنوب الشيعية وقبائل الوسط السُنية، التي غدت الحاضن الوحيد للبناء الاجتماعي. لاحاجة لذكر الوضع اليمني، حيث القبيلة ظاهرة مستحكمة قوية، وفي ليبيا التي لم تفتأ المعادلة القبلية تشكل ثابتاً من ثوابت البنية الاجتماعية رغم خطاب "القذافي" الثوري الراديكالي. بدت الظاهرة غريبة في تونس التي كان الاعتقاد سائداً أن "العروش"(التسمية المحلية للقبائل) اختفت فيها منذ أمد بعيد، فإذا بها تنتفض في الجنوب (في المتلوي وقفصة)، مخلفة عشرات الضحايا. في مصر وضع مشابه في سيناء حيث انتفضت القبائل بعد الثورة وقطعت الطريق، بل ظهرت فيها دعوات انفصالية غير مسبوقة. يبدو من خلال هذه المعطيات البادية للعيان أن التحولات الكبرى التي عرفها العالم العربي في السنتين الأخيرتين قد نتجت عنها عودة المجتمع إلى الأطر العصبية والعشائرية السابقة على الدولة، مما يعني تراجعاً خطيراً في حركية التحديث الاجتماعي والسياسي، وفشلاً مدوياً لمشروع الدولة الوطنية المعاصرة. أقلام عديدة ركزت على هذه الرؤى، مستندة إلى أطروحات اجتماعية سائدة حول عدم قدرة المجتمع العربي على تجاوز البنيات العصبية والتركيبة العشائرية والأبوية، ومن ثم اعتبار النسق السياسي القائم مجرد طلاء خادع لإخفاء المعادلة القبلية المتجذرة (أطروحات هشام شرابي وحليم بركات وخلدون النقيب...). يستند هذا التصور إلى مصادرة القطيعة البنيوية والنوعية بين المنظومة القبلية والدولة المركزية، التي تتمحور حول فكرتين منتشرتين في الدراسات الاجتماعية والسياسية: أولاهما اعتبار القبيلة مرحلة من مراحل تطور المجتمعات البشرية، لا يمكن أن تتأقلم مع حركية المجتمعات الحديثة التي أفضت إلى نموذج الدولة القومية في سماتها المركزية والكلية. ثانيتهما:اعتبار القبيلة نمطاً اجتماعياً قائماً في بنائه الداخلي على كبح السلطة المركزية، ومن ثم انتظامها على آليات التعاضد الأفقي والتصادم الداخلي، التي لا يمكن أن تقوم معها سلطة مركزية جامعة. انتشرت الفكرة الأولى في الدراسات الإثنوغرافية (أي الأبحاث المتعلقة بما كان يطلق عليه المجتمعات البدائية)، وانتشرت في هذا الباب نظرية الإثنوغرافي الأميركي "لويس مورجان"، الذي عرف بدراساته حول أنظمة القرابة لدى "الهنود الحمر"، التي أثرت في الإثنوغرافيا الاستعمارية حول القبيلة العربية (النظر إليها كبناء اجتماعي بدائي ومتخلف). انتشرت الفكرة الثانية في أبحاث "الأنثربولوجيا الانقسامية"، التي انطلقت بأعمال عالم الأنثربولوجيا الإنجليزي "إدوارد إيفانس برتشارد" في أبحاثه حول قبائل "النوير" في جنوب السودان، قبل أن تتلوه أبحاث "آرنست جلنر" حول قبائل الأطلس المغربية. وتدور هذه الأطروحة حول بناء المجتمعات الانقسامية على ثنائية الانشطار والانصهار المانعة لنشوء قطب مركزي، مما يجسد نموذج "مجتمعات اللادولة" مقابل مجتمعات الدولة التي يتحكم فيها رأس واحد مطاع. تحضر الأطروحتان بصياغات عديدة في الخطاب الاجتماعي العربي حول القبيلة والدولة، سواء لدى المدرسة التاريخانية التي تنيط بالدولة التحديثية مسؤولية تفكيك البنيات العصبية واستبدالها بالنظام البيروقراطي- العقلاني للدولة الوطنية الحديثة (عبد الله العروي، برهان غليون، الجابري...)، أو لدى الاتجاه الاجتماعي الثقافي الذي ينظر للمعادلة القبلية كحالة ثابتة مميزة لنظام الاجتماع العربي يعاد إنتاجها في الأشكال الإجرائية للدولة الحديثة، التي تُنعت إما بالسلطانية أو الأبوية الجديدة توظيفاً لمصطلحات عالم الاجتماع الألماني المعروف "ماكس فيبر". ورغم أن نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة توظف على نطاق واسع في هذا النموذج التحليلي، فإن الدرس الأساسي الذي كان لا بد من استخلاصه منها هو تنبيهه الصريح إلى العلاقة الإشكالية المركبة بين الدولة والقبيلة، باعتبار أن القبيلة هي في آن واحد قوة الدفع في تفكيك الدولة، وفي بنائها مع احتساب عامل الرأسمال الرمزي (الدعوة الدينية)، الذي يسمح بتجاوز ضيق النسب وتناقضات العصبية. النتيجة التي يمكن الوصول إليها في تحليل ظاهرة استفاقة القبيلة في ضوء صراع التأويلات الاجتماعية المشار إليها، هي إنما يجري راهناً ليس النكوص إلى مجتمع ما قبل الدولة في مرحلة لا خلاف حول انحسار وتفكك الدولة المركزية فيها. فإذا كان النسق السياسي للدولة الوطنية يشهد تآكلاً جلياً، إلا أن المعادلة القبلية الراهنة تندرج رغم ذلك في منطق البناء السياسي الحديث، ولو من باب تناقضاته وأزماته. فإذا كان من الصحيح أن الجمهور المنفلت من أطر الضبط المركزي للدولة أعاد تشكله في النظم العصبية القائمة التي هي الأطر الوحيدة المتاحة في المخيال الاجتماعي والإرث التاريخي، فإن الإستراتيجية المقصودة في هذا التوجه، هي انتزاع مواقع تأثير ونفوذ في معادلة إعادة بناء الدولة الذي هو الأفق الوحيد للفعل السياسي. ما يشهده الوضع العربي ليس رجوعاً- مستحيلاً - للنظام العصبي والعشائري البديل عن الدولة أو الكابح لنشأتها، وإنما هو مرحلة جديدة من مراحل تأزم البناء السياسي للدولة الوطنية الحديثة، متأت من تحدي "تحلل المرجعيات الإطلاقية" للشرعية السياسية التي قامت سابقاً على نموذج الزعيم القائد والنظام الشعبوي الذي لا يعترف بأي وسائط في الحقل السياسي. إنه تحدي التعددية والتنوع والاختلاف الأصلي القائم على تضارب الإرادات الفردية الحرة، الذي لا يمكن تجاوزه قسراً، وإنما ببناء مسار سياسي طويل ومتدرج يحفظ السلم الأهلي. لا يمكن لقوة أيديولوجية واحدة، وإنْ رفعت شعار الدين، الاستئثار بديناميكية التحول الراهنة التي يؤدي فيها العامل القبلي دور التهدئة المؤقتة.