مرة سألت صبياً يافعاً كان قد ناهز الثانية عشرة، عن الوظيفة التي سيختارها لنفسه بعدما يكبر وينهي دراسته، فأجابني "مثل أبوي، ابصير مطوّع"، وهذا ما تحقق لهذا الفتى لاحقاً، حيث كان والده إمام المسجد، ويخطب أحياناً الجمعة في القرى القريبة من المدينة، ويجمع الزكوات، ومأذون أنكحة، ومدرساً للقرآن الكريم، لهذا خاض ذلك الفتى صراعاً شرساً لستة شهور، مع مطوع آخر نافسه في الحصول على وظيفة مؤذن مسجد صغير، كان يتبعه بيت مخصص للمؤذن، ولم تهدأ المنافسة إلا بعد أن أصيب الآخر بورم في فخذه، أشغله عن الاستمرار في الخصومة، وأخيراً فاز صاحبنا، الذي استطاع عبر التدريب والتهيئة النفسية أن يتقن الخشوع وإبكاء المصلين في صلاة القيام. في القرنين السادس عشر والسابع عشر، انتشرت موضة غريبة لدى الموسرين في أوروبا، من تلك الفئة الثرية التي أخذت على عاتقها إحياء الفنون والعلوم ونمط العمارة القديمة اليونانية والرومانية، فلكي يعيشوا أجواء متخمة بعبق الكلاسيكية عمدت فئة من هذه الشريحة إلى استئجار أشخاص يقومون بدور الزاهد المنعزل، يضعونهم كالزينة في حدائق قصورهم، ويخصصون لهم سكناً أو كوخاً أو كهفاً، ويتركونهم يهيمون على وجوههم في أرجاء القصر، أو منعزلين في غرفهم بعيداً عن الناس. وأحياناً يطلب المالك الثري من هذا الزاهد الظهور قريباً منه على مرأى من عينه حينما يطل من النافذة، أو عندما يتجول وحيداً في الحديقة أو برفقة ضيوفه، وذلك لكي يعزز لديه الشعور بتقدير النعمة التي وهبها الله له، أو لكي يثير في نفسه المرهفة بعضاً من أحاسيس الحزن والانكسار. وكان الأثرياء المغرمون بهذه الموضة يبحثون عن المرشحين لهذه الوظيفة في السجون، وبين المرضى النفسيين، أو يقعون عليهم في مستشفى المجانين، ويتم التعاقد معهم لسنوات قد تصل إلى سبع سنوات مثلاً ليقوموا بدور الزاهد. وكما هو متوقع دائماً فإن البعض منهم يلوذ بالفرار من السأم والوحشة التي تعصف به. ولكي لا يلوذ الزاهد بالفرار قبل انتهاء مدة العقد، فإن بعض الملاك يشترط دفع الأجرة بعد انتهاء المدة المتفق عليها، وهي قد تصل إلى سبع سنوات أحياناً. وبعض من هؤلاء الذين يقبلون بهذه الوظيفة يكونون مدينين أو مفلسين، وفيهم من يجد في هذه الحياة بعضاً من السلوى والمال الوفير بعد انتهاء فترة الانعزال. ولكن منهم من يخسر عقده قبل انتهائه لتورطه مثلاً بعلاقة حميمة مع غانية في أحد بيوت الخطيئة. قد تبدو هذه الموضة التي طواها التاريخ، أمراً مثيراً للاستهجان، ولكننا اليوم نجد أمثلة لهذه الوظيفة، ولكنها تتجسد بمظاهر متعددة، كالترويج التجاري للأخلاق، حيث يعمد "نشطاء الأخلاق" إلى التعامل معها وكأنها سلعة أو منتجاً يروج عبر إعلان مرئي. ولا يرى القائمون على هذه المشاريع بأساً من التعامل مع القيمة الأخلاقية بأسلوب تجاري، حيث تسوق تماماً كما تسوق المنتجات الأخرى، معتبرين أن جمهور اليوم تجذبه الأساليب المعاصرة. إن ما تنشره وسائل الإعلام اليوم حول الانهيار الأخلاقي لبعض من يروجون الدين ترويج السلع، يؤكد شيئاً واحداً هو أن الوعظ الأخلاقي عند هؤلاء لا يعدو أن يكون "نوعاً من التعويذة الطلسمية الحديثة التي تهدف إلى الحصول على النتائج عبر القوى السحرية للكلمات نفسها"، وقد ذكر البيروني في كتابه عن الهند، أن "لدى البراهمة نزعة لتفضيل الأقوال على الأفعال، والاعتقاد أحياناً أن القول والفعل شيء واحد".