عقدت مطلع الأسبوع الجاري لجنة تابعة للكونجرس الأميركي جلسة استماع حول استخدام الطائرات من دون طيار لمطاردة العناصر الإرهابية، وبالطبع كان أغلب مَن أدلوا بشهادتهم حول الموضوع من المتخصصين والخبراء في القانون الدستوري وقضايا الإرهاب، ولكن بالإضافة إليهم كانت هناك شهادة على قدر كبير من العاطفية والقوة أدلى بها إلى اللجنة شاب يمني درس في أميركا هو فارع المسلمي الذي تعرضت قريته لقصف بطائرة من دون طيار قبل أسبوع فقط من شهادته أمام الكونجرس. وهذه الشهادة الأخيرة بما انطوت عليه من قوة وتجربة شخصية وضعت الإصبع على مشكلة الطائرات من دون طيار والتحديات التي تطرحها بالنسبة للسياسة الأميركية في الخارج، فبعدما استعرض الفترة التي قضاها في الولايات المتحدة، والأشياء التي تعلمها وجعلته من محبي أميركا وشعبها استطرد فارع ليخبر اللجنة كيف عاد إلى اليمن لخدمة وطنه، وليمارس دوره كسفير يعرف بأميركا لدى المواطنين اليمنيين. ولكن في أثناء ذلك واجه تحدي طائرات "الدرونز" وتأثيرها السلبي على مهمته، حيث وصف فارع ما رآه قائلاً "في أواخر السنة الماضية كنت مع زميل أميركي يعمل بإحدى وسائل الإعلام العالمية نقوم بجولة في محافظة أبين الجنوبية، لكن فجأة بدا الناس مذعورين، وهم يجرون بعشوائية من مكان لآخر مشيرين إلى السماء، وبالاعتماد على تجاربهم السابقة مع طائرات الدرونز أكدوا لنا أن الصوت الذي يهدر فوق رؤوسنا إنما يعود إلى إحدى الطائرات الأميركية من دون طيار، حينها شعرت بالعجز التام بعدما عرفت أنني بت تحت رحمة تلك الطائرات ولا مفر لي عنها". وتابع فارع شهادته قائلاً إنه شعر "بالإحباط الكامل" بسبب الهجوم، معبراً عن خشيته من أن استخدام تلك الطائرات "يقوي شوكة المتطرفين" فقط، وفي الوقت نفسه يعرض حياته هو للخطر بعدما بدأ يُنظر إليه كشخص خان وطنه بدفاعه عن أميركا! ومع أن القانونيين قد يجادلون لفترة طويلة، محاولين توضيح فوائد استخدام الطائرات من دون طيار وشرعيتها الدستورية، ومعهم الفنيون في استعراض الجوانب التقنية للتكنولوجيا التي تساعد على استعمال تلك الطائرات وعدم تعريضها لأرواح الأميركيين للخطر، إلا أن تداعيات استخدامها على الأرض تبقى خطيرة وحافلة بالتحديات، ولعل أول المشاكل المرتبطة بتلك الطائرات هو الشعور بالعجز الذي لا تولده فقط لدى "الأشرار" الذين تستهدفهم أميركا، بل حتى لدى عموم السكان في البلدان التي تُستخدم فيها الطائرات من دون طيار! فكما علمنا التاريخ غالباً ما يؤدي القصف الجوي إلى تأجيج العداوة في نفوس المستهدفين، فبدلاً من دفعهم للخضوع والاستسلام يكون القصف الجوي عاملاً من عوامل المقاومة والتعبير عن التذمر، وعندما تدمر الحياة اليومية للأهالي ويفقدون أعزاءهم يتحولون على نحو طبيعي وتلقائي إلى كراهية القوى التي تقصفهم. وإذا كان الغرب يبتهج بالتكنولوجيا المتقدمة التي تستخدم في صنع الطائرات والقدرة الهائلة على تحريكها من بعد آلاف الأميال والاعتماد عليها لرصد ومطاردة العناصر ثم استهدافهم بالصواريخ، ولكن على الجانب الآخر لا يشعر المستهدَف سوى بالخوف والعجز الذي يتحول إلى حقد وكراهية. وعلى رغم افتخار الغرب بكفاءة الطائرات من دون طيار وقدرتها على الحد من الضحايا المدنيين، تبقى عملياتها مثيرة للجدل، فأي ضحية يسقط في القصف له عائلة وأصدقاء يتعاطفون معه. وبالإضافة إلى هذه الاعتبارات السلبية المرتبطة باستخدام الطائرات من دون طيار ودورها في تعزيز صفوف الإرهاب بدل القضاء عليه، هناك أيضاً الخلاف القانوني حول أحقية أميركا في اللجوء إلى هذا الأسلوب ضد بلدان ليست في حالة حرب معها، ومهما كانت التبريرات والدوافع التي يسوقها الأميركيون لتبرير اللجوء إلى القصف يبقى وصفها الحقيقي هو أنها ببساطة عمليات اغتيال. وإذا كان من المفهوم استهداف عناصر قيادية في تنظيم "القاعدة" التي تدعو بوضوح إلى ضرب أميركا وتخطط لذلك، إلا أنه عندما يتعلق الأمر باستهداف عناصر مجهولة فقط لأنها مرتبطة بجماعات معينة، فإن كل التبريرات لا تكفي لإقناع الرأي العام الدولي بوجاهة استخدام الطائرات من دون طيار. وأكثر من ذلك علينا دائماً الأخذ بعين الاعتبار أن أميركا اليوم التي تملك التكنولوجيا لن تبقى الوحيدة المحتكرة لها، وأن بلداناً أخرى، وربما كيانات خارج إطار الدول ستملك في المستقبل تكنولوجيا الطائرات من دون طيار لتستخدمها بنفس الطريقة التي تستخدمها بها الولايات المتحدة، ما يعني أن أميركا تضع قواعد خاصة لاستخدام تلك الطائرات يصعب في المستقبل منع الآخرين من اعتمادها. وفي ختام شهادته أمام لجنة الكونجرس لخص الشاب اليمني وجهة نظره قائلاً "حتى باستخدام الطائرات من دون طيار، واستهدافها أحياناً للأشخاص المناسبين لا أعتقد أن الحكومتين الأميركية واليمنية تحققان انتصارات كبيرة على تنظيم القاعدة في اليمن، أو هما في طريقهما للقضاء عليه، لأن أميركا بالاعتماد المكثف على القصف الجوي تخلق فقط المزيد من الأعداء"، فالضربات الجوية يقول فارع تسهم في تأجيج العداء لأميركا وتنسف المكتسبات التي تم تحقيقها على مدى السنوات الماضية، من خلال برامج المساعدات الإنسانية التي تقدمها واشنطن للحكومة والشعب اليمنيين، هذا ناهيك عن حالة التعاطف التي تولدها الهجمات الجوية تجاه كل شخص يناصب أميركا العداء.