جورج مارشال، دين آتشيسون، هينري كيسنجر، جيمس بيكر... هذه أسماء قد يجدها المرء منقوشة على «حائط الشهرة» داخل مقر وزارة الخارجية الأميركية، إذا كان ثمة شيء من هذا القبيل موجوداً. لكن «حجز» مكان على مثل هذا الحائط يتوقف على النجاح في التفاوض حول اتفاقية مهمة جداً، أو نزع فتيل أزمة كبيرة، أو التأسيس لعقيدة ناجحة، أو صياغة استراتيجية للسلام، أو الحرب تضعك في قلب السياسة الخارجية الأميركية. والواقع أن هيلاري كلينتون لم تصل إلى هناك، لكن جون كيري قد يصل. هذا ليس انتقاصاً أو تقليلاً من شأن قدرات كلينتون أو سجلها، ولا هو تفاؤل مفرط بشأن ما قد ينجزه كيري كوزير للخارجية، لكنه اعتراف بأن 90 في المئة من النجاح في الحياة لا يعني الوصول فحسب وإنما الوصول في الوقت المناسب. وبوصوله إلى وزارة الخارجية الأميركية خلال ولاية أوباما الثانية، فإن كيري قد يكون فعل ذلك بالضبط. فحاجة الرئيس لتفويض مزيد من ملفاته العالمية فيما هو يركز على القضايا الداخلية؛ ومجرد كمية وحجم المشاكل التي تنبغي إدارتها، وحقيقة أن كيري -خلافاً لكلينتون- تقلد المنصب في نهاية مشواره السياسي، أي في الوقت الذي يملك فيه ترف الإقدام على مجازفات أكبر... كلها عوامل تتضافر لتمنح كيري فرصة للتألق لم تحظ بها كلينتون أبداً. لا تسيئوا فهمي: فكلينتون كانت وزيرة خارجية رائعة؛ فقد كافحت من أجل وزارتها، وسافرت حول العالم في محاولة لتحسين صورة أميركا. لكن حظها كان سيئاً لأنها خدمت تحت أكثر رئيس أميركي تحكماً في السياسة الخارجية منذ نيكسون. وإذا كانت كلينتون لم تتول المواضيع المهمة المرتبطة بالنزاع والحرب والدبلوماسية التي تحوِّل وزراء الخارجية إلى شخصيات تاريخية، فلأنه لم يُسمح لها بذلك. وبالمقابل، فإنها قامت بما كان عليها القيام به، حيث وضعت أجندة شملت مواضيع المساواة بين الجنسين، وحرية الإنترنت، والبيئة... وكلها مواضيع مهمة، لكنها ليست مجال اختصاص آتشيسون أو مارشال. أما بخصوص المواضيع المتصلة بالسلام والحرب، فقد كان الرئيس ومستشارو البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي المهيمنين. فعلى نحو يمكن تفهمه، هيمن الجيش على موضوعي العراق وأفغانستان مع الرئيس. وعن التفكير حول العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وإيران، والاستراتيجية بخصوص روسيا والصين، وعملية «السلام» في الشرق الأوسط، كان البيت الأبيض هو المهيمن أيضاً. بل إن حتى المبعوثين الخاصين، مثل جورج ميتشل وريتشارد هولبروك كان يُنظر إليهما كمواطنين من الدرجة الثانية. لقد كان وضعاً صعباً بالنسبة لكلينتون. والأكيد أن كل الرؤساء يسعون للهيمنة على السياسة الخارجية، لكن وزراء الخارجية العظام لا يكتفون بتطبيق سياسات البيت الأبيض فحسب، بل يلعبون دوراً أساسياً في صياغتها. والواقع أن سياسة الخارجية في ولاية أوباما الأولى اتسمت بالكفاءة. ذلك أنها لم تشهد إخفاقات لافتة؛ كما أنها في ما عدا قتل بن لادن، لم تشهد لا نجاحات لافتة أيضاً. وقد ركز فيها على الإنهاء التدريجي لحروب أميركا، وكان حازماً بخصوص الإرهاب، وسعى إلى العمل مع الآخرين بدلاً من تبني دبلوماسية الأحادية التي اتبعها سلفه. لكن الحكم يعني القيام باختيارات؛ وفي ولايته الثانية تصبح الاختيارات أصعب بالنسبة لأي رئيس. ونظراً لحالة العالم وما يبدو غياباً لانتصارات سهلة في الخارج، فالأرجح أن أوباما أدرك أن تركته الحقيقية ستكون على الجانب الداخلي. وهنا يأتي دور كيري الذي يحتاجه الرئيس لإدارة عالم خطير على نحو لم يحتج فيه إلى كلينتون. فأوباما لا يريد أن يتذكره الناس بأنه الرئيس الذي حصلت في عهده إيران على سلاح نووي، وأشرف على نهاية حل الدولتين، وسمح لسوريا بالذهاب في طريق رواندا. لذلك، فهو بحاجة لكيري ليواجه هذه التحديات أو على الأقل التعاطي معها. لكن هل كيري في مستوى المهمة؟ ماركس قال: «إن الرجال يصنعون تاريخهم الخاص، لكنهم لا يصنعونه مثلما يريدون». وبالتالي، فبغض النظر عن موهبته والتزامه، فإنه إذا لم يقدم العالم فرصاً حقيقية لدبلوماسية أميركية فعالة، فإن كيري قد يقف في الخارج يتفرج على «حائط الشهرة» إلى جانب كلينتون. فمن خلال مهاجمة إسرائيل في 1973، منح أنور السادات كيسنجر فرصة رعاية ثلاثة اتفاقات لفك الارتباط بين إسرائيل ومصر وسوريا في 18 شهراً؛ كما منح غزو صدام حسين للكويت في 1990 بوش وبيكر فرصة شن الحرب والدبلوماسية بفعالية في الشرق الأوسط؛ ومنحت هيمنة أميركا خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الحرب الباردة مارشال وآتشيسون فرصة ليُظهرا شجاعة وتبصراً. لكن الأزمات لا تكفي بالطبع؛ لأنك كوزير للخارجية، لا تحتاج فقط إلى مجموعة من الأحداث التي تقدم لك فرصة حقيقية للنجاح، وإنما عليك أيضاً أن تعرف كيف تتعاطى مع تلك الظروف عندما تواجهك. إن كيري منخرط الآن في كل المواضيع؛ كوريا الشمالية، وتركيا، والصين، وسوريا، وحتى «السلام» العربي الإسرائيلي! وهذا النوع من الحماس والنشاط يخبرنا بشيء. فخلافاً لكلينتون التي ربما تتطلع إلى جائزة سياسية أكبر، فإن كيري بلغ أوج مشاوره السياسي: محارب في فيتنام، وسيناتور أميركي، ومرشح رئاسي، والآن يشغل ثاني أهم منصب في الحكومة الأميركية. وهو يبدو تواقاً إلى استعمال هذا المنصب، ليس فقط للدفع بالمصالح الأميركية، ولكن أيضاً لاكتساب مكانة في التاريخ كواحد من أهم وزراء الخارجية الأميركيين. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ آرون ديفيد ميلر محلل سياسي أميركي وزميل مركز وودرو ويلسون الدولي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»